أستَحضر دَائمًا مَشهد ذَلك الطّفل الذي أرَاد أن يَستمتع بقطعةٍ مِن الحَلوى، فابتلعَها سَريعًا قبل أن يَتذوَّق طَعمها، ثُمَّ انفجر بَاكيًا، والبَراءة تَشعُّ مِن عَينيه الدَّامعتين، قَائلًا بأنَّه ابتَلَع الحلَوى دون أن يَأكلها..! وهذا مَا يَنطبق على ازدحام بَعض مَن يُصنَّفون -مَجازًا واحترازًا- مِن المُثقَّفين على أبواب دور النَّشر، مُتأبّطين رزمة أوراق، ظنًّا مِنهم أنَّهم قبضوا على فن الرِّواية، الذي استعصى على أجيالٍ عَديدة مِن روَّاد الثَّقافة، رَغم أنَّ هذه “الخَرابيط” لا تَصلح حتَّى لحصّة التَّعبير المَدرسي..! فتَجربة الرّواية لَدينا -مِثل كُلّ تَجربة جَديدة- انغمسنا فيها حتَّى الثَّمالة، ولَم نَضع حَدًّا يَفصل بين التَّغذية الضَّروريّة والشَّبع المُتخم، فتَسابق القَوم -زَرافات ووحدانًا- للفَوز بنَصيبهم مِن هذه التَّقليعة الجديدة، فخَرجت علينا نَماذج عَديمة الكَفاءة والمَنفعة..! هذه الغَزارة السَّرديّة اختصرت قَرنًا كَاملًا مِن الجَفاف الرِّوائي، الذي لم تَصدر فيه 10 روايات، بينما صَدرت في السَّنوات العشر الأخيرة أكثر مِن 100 رواية، ممَّا يُؤكِّد أنَّ الأمر ليس مُجرَّد مُصادفة، خاصَّة أنَّ الأسماء المَغمورة التي قَدَّمتها لنا دور النَّشر “الشَّقيقة”، ملأت الدُّنيا حين أدركت أنَّ المَجد بَات عَلى مَرمى رواية..! وأصبحنا اليوم نَعيش وَاقعًا ثَقافيًّا “مُشوَّها”، بعد أن اكتسحت الرِّواية في الأعوام الأخيرة المَشهد الثَّقافي، وإن كانت مُعظم هذه الرِّوايات تَتَّسم بالإسفاف والتَّشويه، الذي يُمرَّر تَحت ستار المُصارحة، والبوح وكشف المستور، وهذا الأمر استغلّته دور النَّشر ببَشاعة، لتَحقيق أرباح سَريعة على حساب المُجتمعات المُتوارية خَلف شعار المُحافظة..! أمَّا القصور الفنِّي الذي لا تُخطئه العَين في مُعظم هذه الرّوايات، فليس هو المَأخذ الأهم على هذه الأعمال، لأنَّ التَّجارب الأولى ل «تركي الحمد” في ثُلاثيّة “العدامة والشميسي والكراديب”، و «غازي القصيبي” -رحمه الله- في روايته الأولى “شقة الحرية”، لم تَسلم مِن استخفاف النُّقاد بها، لكن “الحمد والقصيبي” تَداركا الأخطاء في روايتيهما “شرق الوادي” و«العصفوريّة”، وأجبرا النُّقاد على الاحتفاء بهما، بعدما وَجدوا في هاتين الرِّوايتين ما يُشبع نَهمهم، وهذا تَطوّر نَوعي استثنائي..! ومِن أغرب الظَّواهر لدينا، اقتحام العديد ممَّن يُصنَّفون -تَجاوزًا- بالشُّعراء ميدان الرِّواية، في مُحاولة يَائسة لتحقيق مَجد روائي، عَجزوا عن تَحقيقه في الشّعر..! ولو سَألتَ هؤلاء الشُّعراء وأشقاءهم النُّثراء عن مَفهومهم للرِّواية؛ ستَكتشف أنَّهم في وادٍ والرِّواية في وادٍ آخر، حيثُ تَنطبق عليهم مَقولة “آينشتاين” الشَّهيرة: (نَحنُ نَخلق المَفاهيم فتأسرنا)، لأنَّ هَؤلاء يَتوغَّلون في الانتقائيّة التي تعد مَأزقًا بحد ذاتها، فهم لا يَهتمّون بالأدوات الفنية، ويُريدون حرق المَراحل، فالتَّجارب الرِّوائيّة الكبيرة انطلقت مِن وَاقع بَسيط، مِثل تَجارب “نجيب محفوظ” و «ماركيز”، ويتَّفق “تركي الحمد” مَع ذلك، حيثُ يَقول: (الرِّواية فَن مديني، بحيثُ يَجعل البَسيط مُعقَّدًا، كما فعل “إبراهيم الكوني” في رواياته عن الصّحراء)..! وهذا لا يَعني اختزال الرِّواية في المَكان، طَالما أنَّها مُجرَّد صنف أدبي لا يُخصَّص ولا يُعمَّم، ويعرف الرَّاسخون في فَن الرِّواية أنَّ كُلّ سيرة رواية، وليست كُلّ رواية سيرة.. وما أحوج “رواتنا الجُدد” إلى الاشتغال على النَّص الذي لا يُمكن التَّنبؤ بنهايته، لبثِّ الدَّهشة والحيرة..! أحمد عبدالرحمن العرفج [email protected]