الملك عبدالله دائمًا أياديه بيضاء، زعيم تأثر بما يحدث في العراق من فلتان أمني، وفوضى سياسية، واحتلال وتدخلات من جهات أجنبية حولت العراق إلى مسرح للتناحر والتقاتل! مشكلة العراق ومعاناة شعب العراق ليس بالاحتلال، الذي يريد أن يعجل بالرحيل ويغادر اليوم قبل غد بعد الخسائر المادية والبشرية والسياسية وغيرها من الخسائر،، بل إن مشكلة العراق الآن تكمن في أبنائه الذين كل منهم ينطلق إما من خلفيات عرقية كالأكراد والتركمان وغيرهم، أو من ديانات مسيحية أو مسلمة، أو من مذاهب سنية أو شيعية أو غيرها من العرقيات والديانات والمذاهب. كل زعيم حزب أو تجمع يريد أن يقنع ويرضي جهات خارجية أجنبية وليس جهات عراقية أو المواطن أو الشارع العراقي الذي أدلى بدلوه في الانتخابات وأتى بهذه الرموز لتلك الأحزاب والتجمعات إلى الواجهة بعد أن كانت في الظل، فشعب العراق تمت مكافأته من قبل من تم انتخابهم لإدارة دفة الحكم في البلاد بالتهميش وارتماء رموز أحزابه في أحضان دول أجنبية، فبدلاً من الإبحار بهذه السفينة العراقية وعلى متنها جميع الطوائف الدينية والمذاهب والعرقيات وغيرها اكتشف الشعب العراقي أنه أصبح ضحية رموز وزعماء أحزاب يريدون الإبحار بهذه السفينة بخلفيتهم الحزبية أو المذهبية أو العرقية أو الطائفية ورمي بقية الأحزاب والمذاهب الأخرى والطوائف الدينية والعرقيات في عرض البحر. العراق على زمن الرئيس صدام حسين لا يعرف الطائفية البغيضة ولا العرقيات المتعصبة ولا المذاهب الدينية المتطرفة ولا هذا مسيحي ولا هذا مسلم فالعراق للجميع، فكلهم يتعايشون بسلام وأمن وأمان. أما ما يحصل الآن فهو حكومات عراقية متعاقبة انفصلت عن الشارع العراقي وأصبحت تعيش في قلاع محروسة من جهات أمنية أجنبية وهو ما يطلق عليها ب «المنطقة الخضراء» في حين المفترض أن الحكومة تنزل للشارع بدون تلك الحراسات الأجنبية حتى يشعر المواطن قبل المسؤول بأنه آمن في وطنه. البرلمان العراقي تم تهميشه ليس هذا فحسب، بل وتحييده بالكامل، بل إن كل عضو في البرلمان أصبح ينتمي لتلك الأحزاب بعرقياتها وطوائفها الدينية ومذاهبها المتعددة وغيرها من التجمعات ولا ينتمي للشعب العراقي الذي وضع البرلمان لخدمته في سن الأنظمة والقوانين وإيقاف تجاوزات أي حكومة عندما تنحاز أو تنحرف إلى حزب دون آخر أو إلى دولة أو إلى سياسة قد تضر بمصالح العراق العليا وتوجهاته. حتى القضاء العراقي الذي يفترض أن يكون بعيدًا عن التجاذبات السياسية وهذا التناحر لم يسلم من الفوضى السياسية حتى إنه أصبح مخترقًا من قبل تلك الأحزاب والتجمعات وغيرها وتم تسييسه بالكامل. نعود إلى مبادرة الوفاق، التي أطلقها ملك الإنسانية، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز- يحفظه الله- بدون شروط مسبقة فهي ليست مستغربة من قبل قائد وطني عربي مخلص غيور على أمته العربية والإسلامية فهو بدون منازع «ملك المبادرات» فالمملكة وشعبها وقياداتها المتعاقبة حريصة كل الحرص على لم شمل العرب والمسلمين أينما كانوا .. فلبنان، على سبيل المثال، تم دعوة طوائفه وأحزابه أيام الحرب الأهلية (التي أكلت الرطب واليابس في لبنان) في الطائف وهو ما عرف ب «اتفاق الطائف» للم شمل جميع اللبنانيين مسلمين سنة وشيعة ومسيحيين وعرقيات وغيرها، ونجحت المملكة بذلك وأعادت لبنان إلى سابق عهده. والذي أكسبها مصداقية هو عدم انحياز المملكة لأي تجمع ديني أو مذهبي أو عرقي أو تنظيم أو فرد أو أفراد في لبنان، بل تركت اللبنانيين وحدهم يقررون ويتفقون في الطائف لما هو في صالح بلدهم. ومثال آخر، مبادرة الملك عبدالله للسلام في قمة بيروت العربية وهي مبادرة أخرى من أجل وقف معاناة الشعب الفلسطيني وإيجاد وطن للفلسطينيين ودولة قابلة للحياة عاصمتها القدس على حدود 67م التي احتلتها إسرائيل وعودة اللاجئين الفلسطينيين. ومثال ثالث، مبادرة الملك عبدالله حينما دعا جميع الفصائل والحركات والرموز الفلسطينية في مكة بجوار الكعبة من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية هي إحدى المبادرات الخلاقة ولم تنحز المملكة لأي فصيل أو حركة أو تنظيم أو فرد أو أفراد، بل تركت الفلسطينيين يقررون فيما بينهم ما يخدم مصالح شعبهم. فالمملكة لديها سياسة ثابتة منذ تأسيسها، على يد الموحد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- تقوم على عدم الانحياز وعدم التدخل في شؤون الغير وهذا ما أكسبها مرة أخرى مصداقية. والمملكة عندما وجهت الدعوة للإخوة العراقيين بعد الحج لم تأتِ تلك الدعوة متأخرة كما قيل أو أنها من باب تعطيل تشكيل الحكومة، كما أشار إليها البعض، بل جاءت بعد أن طفح الكيل وأن العراقيين غير قادرين على تشكيل الحكومة بأنفسهم بسبب التدخلات الخارجية!! وأن العراق أيضًا يمر بمفترق طرق فوجدت المملكة أنه لزام عليها دعوة الإخوة العراقيين كون العراق أولاً: بلد عربي خليجي مجاور، وثانياً: أن لديه حدودًا طويلة مع المملكة تجاوزت أكثر من ثمانمائة كيلو متر وبالتالي ما يحصل في العراق من فوضى سياسية وفلتان أمني بالطبع ينعكس سلبًا ويؤثر على المملكة بدون أدنى شك. وثالثاً: أن التوقيت للوفاق هو أنسب وقت، بعد انتهاء موسم الحج السنوي لأن المملكة حكومة وشعبًا تكون قبل الحج وأثناءه منشغلة في تأمين أمن وسلامة الحجيج، فالمملكة تلغي جميع ارتباطاتها الإقليمية والدولية قبل الحج وفي أثناء الحج حتى انتهائه وهذا ما يدحض تحليلات البعض غير المنصفين وجهلهم بظروف المملكة في موسم الحج. فالمملكة عليها التزام ومسؤولية حماية الحجيج، في رقعة صغيرة جدًا، تزيد أعدادهم عن المليونين حاج وتوفير سبل الراحة والطمأنينة.. رابعاً: أن هذا التوقيت يدل على اهتمام المملكة بالأشقاء العراقيين، فبعد موسم الحج تتفرغ المملكة لموضوع شائك يؤرق العراقيين والعرب موضوع تشكيل الحكومة دون تدخل، وبالتالي تهيئ للمجتمعين الجو المريح لكي يتناقشوا ويتحاوروا فيما بينهم دون تدخلات من الغير ومن المملكة بشكل خاص. فالمملكة، كما أسلفنا، ليست المرة الأولى التي تدعو أشقاء لها للتحاور فيما بينهم بدون شروط مسبقة أو أية إملاءات أو انحياز لطرف دون الآخر، بل دعوات عديدة، أوردنا البعض منها سالفًا، وتتمنى لهم كل التوفيق والنجاح لكي يرجع العراق، بلد حضارة الرافدين كسابق عهده قويا برجاله ونسائه الشرفاء. إنه بالفعل ملك المبادرات الخلاقة عبدالله بن عبدالعزيز. [email protected]