لئن كانت لكل دولة قضايا رئيسية وخطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها، أو التعرض لها، ويعتبر من يفعل ذلك منسوبًا للخيانة العظمى وإثارة الشغب، ويحسب من ضمن المعارضة، ومن الخونة لأوطانهم وحكوماتهم. فإن من أعظم الخيانات وأسوأ التعديات والخروقات، ومن أفحش أنواع الخروج: الخروج على الشرع ومن أشنع ذلك الخروج على المسلمات الثابتة بأدلة شرعية صحيحة صريحة لا يختلف فيها اثنان، وذلك الخروج إما بإلغائها أو التشكيك فيها أو محاولة ممارسة النقد لها من خلال ما وقر في فكر تلك الفئات المنحرفة فكريًا، والمتعدِّية شرعًا، والمتجاوزة عرفًا لكل القيم والثوابت، من خلال آليات ونظريات غربية تغريبية ومناهج فكرية دخيلة منبثقة من نفوس منحرفة فطريًا، بعيدة عن كل تعلق قلبي بأي دين سماوي، خاوية على عروشها، تعيش وتموت ضنكًا، لأنه لم يوقر شيءٌ في القلب فأصبحت تتقلب في صفحات البعد الوجداني، غارقة في أوحال الأفكار الشيطانية المستمدة من طبيعة سفلية لا ترتقي أبدًا، مثبتة أطنابها في نِحل لا رأس لها ولا قدم، فما هو سبيل هؤلاء لذلك ومن أين جاءتهم هذه الأفكار وما هو غرضهم؟ إن سبيل هؤلاء القوم في التعرض للمسلمات إنما هو أدوات غربية مجترَّة من حقب ماضوية من أمثال المنهج الشكِّي الديكارتي والذي أداته منهج النقد التاريخي، ولا نتعجب من ذلك فقد وجد في صحفنا من طالب بذلك مجاهرة عيانًا بيانًا صراحة بدون مواربة، وأعلنها صريحة “لا بد من تعميم منهج الشك وعرض كل شيء وفقه فإما أن يثبت وإما أن يسقط”، وهذا المنهج من أخطر المناهج وهو نََفَس خبيث وفد إلينا من الغرب مع غيره من سيئ أفكارهم، ولا نعجب من ذلك بالنسبة لهم، ولكن نعجب أن يوجد من أبناء المسلمين من يتلقفون تلك المناهج على ما فيها من مخالفة لبديهيات الدين ومسلماته ولكن لما لم يكن لتلك المسلمات والثوابت أي مكانة في نفوسهم هانت عندهم فوضعوها موضع البشري من الأفكار والتصورات ونسوا أو تناسوا أنها من لدن حكيم خبير وأن ما يريدون عرضه للنقد والتشكيك هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وأن السنة التي يريدون الطعن فيها إنما هي وحي يوحى فرسولنا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى. وهذه الأفكار والمذاهب إنما جاءتهم من قبل التأريخ المأزوم لأناس شوهت عقولهم ونُكِّست فطرهم حصل عندهم نوع من “القطيعة المعرفية” لِمَا كان سائدًا في نفوسهم ومستقرًا في فطرهم فزَلزلت هذه الثوابت وذلك السائد أفكارٌ ثورية سببها تحولات جذرية نتجت عن قراءات فلسفية وتأملات فكرية منحرفة زاغت وما استساغت ذلك السائد فنفرت منه وانكبت عليه طعنًا ونسفًا، انحرفوا عن الحق فحُرموا منه فاعتمدوا على عقولهم وأخذهم الكبر أي مأخذ فأرادوا أن يحيطوا بالكون فيزيقيه وميتا فيزيقيه من خلال استقرائه ونسوا أن هناك بابًا يستحيل طرقه فضلًا عن فتحه وهذا الباب قد اختص به رب العالمين ألا وهو باب الغيب وباب علم كل شيء وباب الإحاطة بكل شيء فالبعض منهم قد تلبسه الشيطان وأزَّه أزًَّا حتى إنه لم ير في عقله عوجًا ولا أمتًا فظن في العقل هاديًا ودليلًا وموجهًا له ومنيرًا وما علم أن العقل محدود القدرات وله مجال لا يمكن له أن يتجاوزه ولذلك اضطر الفيلسوف الألماني جوته أن يصرح قائلًا: (إن من سعادة ذي عقل أن يجري عقله في الأمور التي يستطيع العقل أن يجري فيها وأن يسلم نفسه بانقياد وخضوع أمام الشيء الذي لا يمكن شرحه أو وصفه). ولكن لو تساءلنا ما هو غرضهم من هذه المناهج الخربة؟ لقلنا الخراب لا يهدي إلاَّ إلى الخراب فهم يريدون من خلال هذه الأدوات والمناهج تخريب الدين والطعن فيه وإثبات أن لا مقدس إلاََّ العقل وأن لا شيء يسلم من النقد والعرض على العقل معتمدين في ذلك على الماديات بعيدين في كل ذلك عن عالم المثل فإذا ما أثبتوا ذلك بهرطقتهم العقلية وألقوه في أنفس العامة وأوجدوا له قبولًا عندهم حتى إذا استقر في أنفسهم ولم يستوحشوه قلبوا الطاولة وحرَّفوا وبدَّلوا شرع الله بعد أن وطَّنوا الناس على ذلك وبعد أن كشفوا أقنعة بؤسهم وثوب تبعيتهم فنظرتهم العامة للنصوص المقدسة أنها روح ورموز فالروح تبقى والرموز تتغير ويقصدون بالروح مجرد الدال ويقصدون بالرموز المدلول، فالمدلول عندهم يخضع لقوانينهم التفكيكية لبنية النص والدال ثابت جامد يسعون لتحنيطه ووضعه في أقرب متحف فإذا ما فعلوا ذلك انطلقوا متحررين من كل قيد بمنأى عن كل رقيب إذًا المدلول هو لعبتهم وهو طريقهم إلى ليِّ أعناق النصوص وتفسيرها وفق نزَق عقولهم والنظر إليها بنظر عصراني تجديدي فإذا أكدوا ذلك واستقروا عليه انتقلوا للمرحلة الثانية وهي ليّ أعناق ذلك المدلول والذي هو متغير عندهم باعتباره رمزًا، والرمز يحتمل أوجهًا فإذا ما أرادوا إضفاء الشرعية على ترميزهم أقحموا قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال والأماكن وهذا من التلبيس على العامة حتى يظهروا انطلاقهم من منطلقات شرعية ولو أنهم أخذوا بهذه القاعدة فيما هو ضمن نطاق هذه القاعدة مما هو قابل للاجتهاد لكان ذلك جيدًا ولكن ليس بالنسبة لهم بل لمن هو أهل للاجتهاد، ولكنهم توسعوا بما أوتوا من جهل فألحقوا به ما هو من الغيبيات والسمعيات حتى أضحى الدين كله بلا استثناء عندهم واقعًا تحت تسلط مبضع أدواتهم وكل ذلك رغبة في عصرنة الدين ولي أعناق النصوص ليتمكنوا من إعادة تأويل العقائد والثوابت والمسلمات والأحكام وفق العلوم والفلسفات الحديثة -الفكرية- والتي كثير منها لا تزال في طور الظن ولم ترق لمرتبة الحقائق مجترين ذلك الأسلوب من حركات التجديد سواء اليهودية ممثلة بمند لسون، أو النصرانية ممثلة برائدها الراهب الفرنسي لوايزي أو حتى من حركة التجديد الإسلامية (العصرانية) ممثلة برائدها المستغرب السير سيد أحمد خان والعجيب أن من استقرأ الحالة الفكرية والثقافية في المائة سنة المنصرمة أو يزيد لوجد أن جُلَّ أطروحات هذه الحركات المسبوقة في تلك الفترات تم اجترارها وإسقاطها على النص عندنا إن كانت غربية أو أخذت كما هي إن كانت شرقية إسلامية فالمعاصرون لم يأتوا بجديد البتة. ثم إن تلك الحركات الغربية أسقطت نقدها وعرضها المنهجي على نصوص محرفة غير محفوظة تلاعبت بها الأيدي وسُمِع صرير الأقلام على قديم ورقها بينما نصوصنا والمتمثلة بالكتاب والسنة محفوظة بحفظ الله لها. إذًا يتضح مما سبق أن هناك نفسين خبيثين تم اجترارهما من حقب سابقة: النفس الأول: هو الدعوة إلى التفلسف والنظر إلى الشرع ضمن القيم الفلسفية عبر منظومة منطقية يرجى من ورائها حسب زعمهم تثبيت الإيمان وإرساء دعائمه عبر الفلسفات المنهجية ممثلة بثورة الشك المنهجي لعرابهم الأكبر ديكارت ومن ثم النظر إلى قيم التطور المادي عبر تلك الفلسفات وأنها السبيل المخلص لهذه الأمة من تخلفها ناهيك عن بقية الفلسفات التي تطل بأعناقها بين فينة وأخرى تُقدَّم قربانًا وعربون ولاء لأسيادهم. النفس الثاني: هو النفس العقلاني والمتمثل بكل المناهج العقلانية: كالعصرانية، والليبرالية والحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية،فكل هذه المناهج لها دعوة واحدة وإن اختلفت الأساليب ولكن بالنسبة لهم “كل الطرق تؤدي على روما” طالما أن الهدف واحد. وعلى ذلك وبعد كل ذلك إن كل ما نطلبه هو تحرك العلماء والدعاة ومفكري الأمة الصادقين أصحاب المنهج الحقة لنصرة هذا الدين والمنافحة عنه ودحض شبه القوم ومناقشة أطروحاتهم الحجة بالحجة وبيان زيفها وبعدها عن الحق والصراط المستقيم واستزادتهم من العلوم الفكرية حتى يرتقوا بما عندهم من علم شرعي فيجمعوا ما بين الاستدلالات المنطقية والحجج الشرعية نسال الله لنا ولكل من ظل الطريق الهداية والصلاح إنه ولي ذلك والقادر عليه. [email protected]