إن عملية إعادة كتابة الموروث التاريخي أو إعادة إنتاجه بصورة جديدة وفق شروط معينة تخلق مقاربة للصورة القصصية المتخيلة، وتضع الكاتب في حالة اختبار لقدراته الفكرية والسردية والمعرفية لكي تكون واعية لتلقي مثل هذا الإرث وإعادة إنتاجه ورسم شخصياته في صيغة أبعد ما تكون عن التمثيل الانتقائي بل في أدوار مدروسة خاضعة للتماهي والمقاربة، وليست تكرار سرد لحكايات غابرة أو استعارة ظروف وأحداث صاغها التاريخ مرارًا، ولكن النظر من زاوية أخرى تمكن السارد من رصد تفاصيل قد تكون هامشية لكنها مفصلية ودقيقة. وهذا يستلزم وعيًا دقيقًا وحسًّا عاليًا ومعرفة كاملة بالظروف المكانية والزمانية والأوضاع الاجتماعية والسياسية آنذاك للإلمام الكامل بكل جوانب شخوصه وأيضًا خلق نوع من التواصل بين هذه الشخصيات التاريخية والمتلقي بالكتابة الجديدة من خلال سيناريو مبتكر وأدوار متخيلة. هذا النوع من الكتابة السردية هو اشتغال على أحداث ووقائع وشخصيات ممتدة عبر الماضي في قالب قصصي منتج في الحاضر؛ فتصبح كأنها عملية جلب هذه الأحداث بشخوصها ووقائعها نحو الحاضر. أو بتفسير آخر، هي عملية تداخل الحاضر بالماضي ليعمل الخيال بدوره وفق تكنيك فني يضعنا أمام سرد حقيقي يعمل بمهارة لربطنا بالتاريخ من زاوية رؤية مغايرة عن المتعارف عليه حتى لكأن هذه الشخصيات تعيش بيننا في عصرنا الحديث. ولا يكتفي السارد بذلك بل يتعمق في أبعادها النفسية مظهرًا انفعالاتها وخلجاتها الداخلية ليؤصل علاقتها بالمتلقي من خلال نقل شعورها في إطار لا يغفل أي معلومة قد تكون مادة ثرية لصنع حدث مختلف. إن تجربة الكتابة التاريخية تأتي ضمن شغف القاص عدي الحربش بالتاريخ والاتكاء على المخزون المعرفي الكبير من خلال قراءاته العميقة له وقلقه الدائم لتقديمه في قالب جديد، وهو جزء من همه الخاص حين يمارس حركة معاكسة للخط الكتابي التقليدي واختراق العادي والمألوف لتكوين أرضيته السردية الخاصة عدا عن كونه إسهامًا معرفيًّا وثقافيًّا مخصبًا ومحرضًا في ذات الوقت. من خلال نص (سربندي) و(سر أبي الطيب) و(شاخ نبات) و(الإسطرلاب) يظهر لنا جليًا مدى العمق المعرفي للقاص عدي الحربش في كيفية تعامله مع التاريخ وحرصه في عملية تنقله الزماني والمكاني على عدم إغفال الحقائق أو المساس بها أو حتى تزييفها دون أن يمنعه ذلك من التعامل معها بحرفية. وبقراءة متأنية لهذه النصوص نجد أننا أمام عملية تفكيك لذلك الموروث عمدت إلى صنع تاريخ آخر مواز وأكثر قربًا وحميمية للقارئ المعاصر. ولأن الماضي يحمل امتداده إلى الحاضر كان هذا اللجوء السردي إلى التاريخ بكل ثقله الرمزي وخلع عباءة القداسة عن كاهله، التي توقف أمامها الكثير من الكتاب لعلمهم بأنه بحر عميق سيغرق فيه من لا يحسن استخدام أدواته، فليس كافيًا أن تكون قارئًا جيدًا للتراث لتصنع قصة من خلاله، بل لا بد من الخيال الخصب والقدرة الفائقة لوضع شخصية مثل (زرياب) في حوار تخيلي مع فتى أندلسي في نص (سربندي) فهو في هذا النص لم يستحضر التاريخ وحسب لكنه أتى به محملًا بزخم جمالي يتمازج فيه التاريخ بالموسيقى والشرق بالغرب، فعنوان النص مستوحى من لحن أوركستري على الفيولونسيل (السربند) وهي رقصة اسبانية قديمة انتشرت في أوروبا بين أثنين من الراقصين أو بين زوجين، والقصة تتبع البناء السربندي حيث ثمة دائما شخصان يلتقيان وهو ما جرى بين زرياب والفتى الاندلسي وما دار بينهما من تحد موسيقي رسم له القاص سيناريو لا تخطئ العين جماله ومتانته، تبارا فيه الاثنان على الطريقة السربندية وسط حضور كبير وأجواء مليئة بالإثارة. والكتابة من هذا النوع لا تأتي عبثا دون غاية فهي عملية صنع حدث تاريخي متخيل أو اقتباسه ثم إسقاطه عليها في معالجة سردية تراعي الاتقان وقوة الإيحاء؛ لتدفع بالقارئ إلى التأمل، وبالتالي تتحول إلى عملية عقلية.. أي عملية تفكير شاملة يجد القارئ فيها نفسه متسائلا عن الأحداث والوقائع وكأنها حقيقية تمامًا. ما الذي يدعو المبدع إلى استقاء مادته من التاريخ؟ يقول (روبرت لويس ستيفنسون) -وهو من رواد القصص الإنجليزي: “ليس هناك إلا ثلاثة طرق لكتابة القصة؛ فقد يأخذ الكاتب حبكة ثم يجعل الشخصيات ملائمة لها، أو يأخذ شخصية ويختار الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية، أو قد يأخذ جوًّا معينًا ويجعل الفعل والأشخاص تعبر عنه أو تجسده”، وهو ما نجده جليًا في القصة القصيرة لدى عدي الحربش، حيث ترتكز على التاريخ كمادة وجذب شخصياته ووضعها في قوالب سردية لتحقيق أهداف ودلالات يسقط من خلالها إشكالية محددة يتم معالجتها بأسلوب قصصي يؤلف ما بين خصوصية القصة القصيرة لديه وعمومية الإرث التاريخي وإشباع ذائقة المتلقي الباحث عن قراءة مختلفة وسرد بعيد عن الكلاسيكية التقليدية. إن الخيال التاريخي كمادة رافدة لكتابات عدي الحربش ساهم في تشكيل هويته السردية، التي تعد من أكثر النماذج جذبًا للمتلقي ولما تتميز به من ديمومة وحيوية رغم أنها مستقاة من الماضي. القاص عدي الحربش حين يكتب الأحداث والشخصيات التاريخية فهو لا يقدمها للقارئ كما يفعل الإخباريون أو المفسرون لكنه يعيد قراءتها على عدة أصعدة، ويقدم بالتالي قصة قصيرة بنظرة تاريخية جديدة ذات خيال أسطوري لافت. وهذا ما يلحظه القارئ في نص (شجرة بني يام) وهذا النص كما يقول عنه كاتبه عبارة عن مزج لقصتين إحداهما خيالية من الأساطير بين زوجين يعشقان بعضهما والزوجة تنتظر عودة هذا الزوج حتى تتحول في آخر المطاف إلى شجرة، والقصة الثانية هي لشخصية تاريخية معروفة هو راكان بن حثلين وحكاية أسره لدى الأتراك، وهو معروف في الموروث الشعبي في الجزيرة العربية. وبهذا المزج خرج إلى الحياة نص بروح جديدة. ذو حبكة درامية تحمل رؤية الكاتب الخاصة. التاريخ رافد عظيم من روافد القص إذا احُسن اختيار المادة وضبطت الحبكة على التمام. والسارد المتمكن هو من يصيب مواقع الشعور ويثير بلغته وطريقته مكامن الخيال لدى المتلقي. وفي الكتابة التامة المفيدة قال الرافعي: هي مثل الوجهين في خَلق الناس، ففي كل الوجوه تركيب تام تقوم به منفعة الحياة، لكن الوجة المنفرد يجمع إلى تمام الخَلق جمال الخُلق ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة. وهو بذلك ولذلك يُرى ويؤثر.