قدمنا سابقا بعض الأدلة على شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته ورحمته بهم، وهي لفتة مهمة للدعاة ليتعاملوا مع الناس من منطلق الرحمة بهم والتيسير عليهم، وقد حدثت في زمن النبي واقعة تدل على كمال رحمته بأمته وشفقته عليهم، فقد جاء رجل إلى النبي فقال: هلكت يا رسول الله، فقال: «وما أهلكك»؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فقال: «هل تجد ما تعتق رقبة»؟ قال: لا، فقال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين»؟ قال: لا، فقال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا»؟ قال: لا، فجلس الرجل، فأُتِي النبي بعَرَق - أي زبيل أو مكتل - فيه تمر، فقال: «تصدق بهذا»، قال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها - أي حرَّتا المدينة - أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي حتى بدت أنيابه، ثم قال: «اذهب فأطعمه أهلك» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. إن مظاهر التيسير في هذه الواقعة كثيرة جدا، فرغم أن الإفطار العمد في رمضان كبيرة من الكبائر، ورغم أن معاشرة الزوجة في نهار رمضان أعظم في انتهاك حرمة رمضان من غيرها من المفطرات، إلا أنه يتجلى بوضوح حسن خلق النبي ويسره في التعامل مع المخطئين حتى لو كان خطؤهم كبيرة من الكبائر، ومن مظاهر التيسير: 1. أمر النبي ذلك الرجل بالكفارة، ولم يعزره على معصيته، فاستدل بعض العلماء من هذا على أن المسلم إذا ارتكب معصية ليس فيها حد، وجاء تائبا نادما مستفتيا، أنه لا ينبغي للعالم أو القاضي تعزيره، قال الحافظ ابن حجر: واستدل بهذا على أن من ارتكب معصية لا حد فيها وجاء مستفتيا أنه لا يعزر؛ لأن النبي لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية، وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود، وأشار إلى هذه القصة، وتوجُّهُه أن مجيئه مستفتيا يقتضي الندم والتوبة، والتعزير إنما جعل للاستصلاح، ولا استصلاح من الصلاح، وأيضا فلو عوقب المستفتي لكان سببا لترك الاستفتاء، وهي مفسدة، فاقتضى ذلك أن لا يعاقب، انتهى. 2. حلم النبي على ذلك الرجل كثيرا، فقد ذكرت بعض روايات الحديث أن الرجل كلما عرض عليه النبي خيارا للكفارة كان يرد عليه ردا جريئا، فعندما عرض عليه النبي العتق قال: والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط، وعندما عرض عليه الصوم قال: وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام، وعندما عرض عليه الإطعام قال: والذي بعثك بالحق ما أُشبِع أهلي، بل وعندما أمره بالصدقة بالتمر عن كفارته قال: على أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا. 3. ثم جاء تبسم النبي وإذنه له بإطعام أهله تتويجا لحلمه ورحمته بأمته، ولا عجب فقد كان الحلم فيه سجية، فقد جاء في وصفه أنه كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب، رواه الترمذي في الشمائل والبيهقي في شعب الإيمان ودلائل النبوة.