القضاء كغيره من المرافق يحتاج دومًا لتطوير إدارته، وقد تفضل عليَّ أخي الدكتور عبدالملك بن أحمد آل الشيخ بنسخة من كتابه «تطور إدارة القضاء في المملكة العربية السعودية على ضوء النموذج المنشوري»، وجاءت هذه الدراسة لتسد فراغًا في هذا الجانب، والذي نفتقر فيه الكثير من البحوث المعنية بتنمية الفكر الإداري تجاه هذا القطاع الهام، حيث تطرق لمضمون النموذجين البيروقراطي والمنشوري للتطور البنيوي لإدارة القضاء في المملكة، فأشار إلى مشكلة مزمنة في مجتمعنا، وهي عدم تقبل التغيير ومقاومته، ويعود ذلك لتقاليد اجتماعية وثقافية، عبر الاهتمام بالذات والقبيلة والمدينة باعتبار أنها أشبعت الحاجات الطبيعية والاجتماعية والأمنية، وبالتالي انحرفت الولاءات نحوها قبل الولاء للمجتمع ودولته ومصلحته العامة، وهذا من المنظور الإداري عموماً. وأما من المنظور الإداري الخاص بالقضاء، فهناك العديد من المراحل الإدارية التطويرية، لكون التطور البنيوي لإدارة القضاء في المملكة قد مر بمراحل طبيعية نحو المعاصرة، وكان لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله الدور الكبير في إحداث التحولات المتسارعة في إدارة القضاء، والرفع من مستواه بإدخال الأنظمة الحديثة المساندة، ومن ذلك إيجاد بعض الأنظمة واختصاص كل دفتر، وأمره بعدم تجاوزها أو إهمالها وعدم إعفائهم من القيام بواجبها، ونصح في احد خطاباته على كون ذلك من المصلحة العامة، ولا محذور في ذلك شرعاً، بل قال أن هذا تقتضيه المصلحة الشرعية، ومن أسباب حفظ الحقوق على أربابها، وحذر من الالتفات إلى وساوس الموسوسين وجهالات المغرضين، مع إشارته إلى أن بقاء الأمور على حالتها الأولى من الإهمال والإضاعة هي التي دفعت الحاجة إلى وضع الموظفين والاستعدادات التامة بما يحفظ الحقوق لأصحابها، وحسم سماحته الأمر بعدم جواز الإهمال أو الرفض وأنه لن يرضاه، وأوجب العمل به، واعتماد موجبه، وهذا الموقف النموذجي مضى عليه أكثر من نصف قرن، مما يشير إلى مشكلة مزمنة كامنة في داء المقاومة للتغيير والممانعة للتطوير، ولزوم الحزم والحسم تحقيقاً لمناطات المصلحة العامة، وعدم الرضوخ لتبريرات واهية تتجاوز في آرائها على الحقوق الشرعية والمصلحة العامة. وقد وفق المؤلف في وضع يده على الحقيقة، حينما قال بأن الناس قد جبلوا على الخوف من المجهول والتمسك بما اعتادوا عليه وألفوه وعرفوه لما يجدونه من حماية لذواتهم، ولعل أكثر المشكلات التي تواجه القيادات السياسية الطموحة في المجتمعات النامية تتمثل في مقاومة التغيير، وهي سمة الثقافة السائدة، والتي تعاني من درجة عالية من عدم التغير، ومن المعروف سهولة تغيير العناصر الظاهرة، لكن الأصعب يكمن في تغيير أسلوب تفكير الناس وإدراكاتهم وعلاقاتهم واتجاهاتهم وتحيزاتهم وسلوكياتهم، وهذه الأسباب وغيرها تخلق الازدواجية في الثقافات والسلوكيات التي تتراوح بين التحديث والتقليد، ويكفي أن ندرك بأن التقليد لا يكلف شيئاً سوى الاستمرار على ما كان عليه الحال، في حين أن التحديث يحتاج لجهد واجتهاد. ولذا أدرك ولاة الأمر في بلادنا العزيزة طريقة التطوير الناجحة، فعمدوا إلى تطوير الأنظمة لتصبح على أحدث نظم القضاء، وبدأت بإنشاء المباني وتحسينها وإمدادها بكل حديث من المعدات والتقنيات، ووضع التنظيمات واللوائح والإجراءات والنماذج الحديثة الميسرة للإنجازات، إضافة لجانب تأهيل القضاة وكتاب العدل، ومعاوني القضاة والموظفين وتدريبهم. وقد أنجز المجلس الأعلى للقضاء الكثير من المراحل التطويرية، كما قام ديوان المظالم بالعديد من النجاحات التنموية، إضافة للمحكمة العليا وممارستها لواجباتها القضائية ومسألة إثبات رؤية الأهلة وتقرير دخول الأشهر القمرية، واستناداً إلى ما عُهد لوزارة العدل من توفير البيئة العدلية المتميزة، واستشعاراً منها لما يجب عليها تجاه هذه المسؤولية، فقد رسمت «خارطة طريق» تمثل المرحلة الأولى لأجندتها؛ لتحقيق التميز المؤسسي للأجهزة العدلية؛ تمكيناً لها من القيام بدورها الأمثل، ولتمضي بثقة نحو التنافسية، آخذةً وضعها المستحق في الصدارة الدولية، وتتلخص أبرز معالم هذه الخطة في المسارعةِ في تشييد المباني العدلية وتجهيزاتها، والاستخدامِ الذكي للتقنيات الحديثة، وتعزيزِ دُوْر العدالة بالموارد البشرية المؤهلة، وترسيخ مفاهيم الإنجاز، وإشاعة ثقافة استثمار الوقت، وإعادةِ تأهيل المكتب القضائي، والأخذِ بفكرة «الوساطة والتوفيق» وفق نظام ملزم، لا تحال بموجبه القضية إلى المحكمة المختصة إلا بقرار من الوسيط، وقَصْرِ المُرَافَعَةِ على المُحَامِيْ، ودعم مهنة المحاماة، والأخذِ بفكرة «المعُونَةِ القَضَائيَّة» لذوي الدَّخْل المَحْدُودِ، والحكم على الخاسر بأتعاب المحاماة، ومصروفات الدعوى، ونشرِ ثقافة التَّحكيم، والحث على تضمينه كافة العقود التي يجري فيها، ونشرِ الأحكام، واستخلاصِ مَبَادِئِهَا القَضَائيَّة، مَعَ المُسَارَعَةِ إلى إيجادِ مُدَوَّنةِ أحكام مُلْزمَةٍ لكُلِّ اختصاصٍ نَوْعِيٍّ مشمول بالنظام الجديد، والإدارة المثلى للوقت، وبخاصة إدارة المرافعة القضائية، والتفعيل الفوري للأحكام الغيابية، والحزم في تطبيق أنظمة وتعليمات الحد من الدعاوى الكيدية، وفي سياقها الدعاوى غير الجدية، وتفريغِ القاضي من أي عمل لا يمت لاختصاصه الولائي بصلة، وإعادة النظر في ترتيب ساعات عمل القاضي؛ وتخصيص ساعات مكتبية لإمضاءاته ومفاهمات مرجعه، ولن يكون في مكثه بعد ذلك عائد يذكر؛ ذلك أن القاضي لا علاقة له بالمحكمة إلا حال جلسات المرافعة، ومداولاتها، مع تخصيصِ بعضِ الأَعْمَال التوثيقية لكُتَّاب العَدْل، في سياق نظائر توثيقية أشد احتياطاً كما في توثيق الأنكحة، وإنشاء مركز للبحوث، ونشر الثقافة العدلية، والإشراف على تطبيق مبدأ استقلال السلطة القضائية، وبناء شراكات محلية ودولية، واستخدام تقنيات المعلومات والاتصالات. كما قامت وزارة العدل بالكثير من الأعمال التطويرية على صعيد التحديث الإداري والتنمية البشرية، وتقنية الممارسات القضائية عبر النظام الشامل، وقيامها بطرح مناقصات لبناء جميع الأراضي المتاحة، وتقديمها لمنافسة القسم التقني لمشروع الملك عبد الله لتطوير مرفق القضاء شاملاً جميع مرافق الوزارة دفعة واحدة، مع الكثير من الملتقيات المتخصصة، ومشروع عدل الاستراتيجي، ومع جميع ما تحقق من منجزات إلا أنها جزءا من أجندة أعلنها معالي الوزير وبشكل غير مسبوق، تعني الجدية والعزم على إنجاز المهمة بأحسن وجه يحقق آمال خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني والشعب السعودي النبيل. [email protected]