كان جميلاً أن تتطوع عائلات بعض الذين قُتلوا في تفجيرات 11 سبتمبر، للتظاهر أمام بلدية نيويورك، وفي صحبتهم ممثلون عن 40 جمعية حقوقية ومدنية ودينية، شكلت ائتلافًا لإعلان الدعم الشعبي لإنشاء مسجد ومركز قرطبة على بعد بنايتين اثنتين من مكان تفجيرات سبتمبر المشؤومة، ثم اتجه المتظاهرون من البلدية إلى موقع التفجيرات، ليعلنوا هناك تأسيس منظمة «جيران في نيويورك من أجل القي م الأمريكية»، التي أعلنت في أول بيان لها قائلة: «نهدف إلى ضمان واحد من أهم المبادئ التي تأسس عليها وطننا، نهدف إلى حرية الأديان وتعددية المواطنين، نهدف إلى معارضة الصور النمطية السلبية، نهدف إلى وقف الخوف والتخويف والانقسام والتقسيم». لكن ما هو أجمل ما أعلنته دونا أوكونور الناطقة باسم جمعية «عائلات 11 سبتمبر من أجل غد سلمي»، والتي قتلت ابنتها الحامل خلال الهجوم على مركز التجارة العالمي، حيث قالت: «لم يهاجمنا العالم الإسلامي في 11 سبتمبر، ونؤيد مشروع بناء المسجد بالكامل». * * * لقد أصدر عمدة نيويورك مايكل بلومبرغ بيانًا، أيّد فيه حق مسلمي نيويورك في إقامة مسجد لهم في أي مكان توافق عليه السلطات المحلية، وقال: إن الهجوم على مشروع المسجد يتعارض مع ما يؤمن به أهل نيويورك، حيث لا مكان للتمييز العرقي أو الديني، وتجدر الإشارة إلى أن كافة السلطات المحلية في نيويورك، قد وافقت بالإجماع على بناء مشروع المركز الإسلامي، الذي يتألف من 13 طابقًا، ويشمل مسجدًا، وقاعة للمحاضرات، وحمامًا للسباحة، وقد لجأ المعارضون أخيرًا إلى لجنة الحفاظ على معالم مدينة نيويورك، لاعتبار العقار الذي سيقام مكانه المركز الإسلامي من معالم المدينة، ومن ثم لا يمكن هدمه، وقد رفضت اللجنة هذا الطلب، فأصبح الطريق مفتوحًا أمام المشروع. أحببت أن أضع هذه الأحداث بين يدي القارئ، لأوضح أن أمريكا كما تمتلئ بالتطرف والعنصرية وكراهية الإسلام، فإنها تتسع على التوازي لكل أولئك الأمريكيين الأحرار، الذين يستمسكون بالمثل التي آمن بها الآباء المؤسسون لأمريكا، الذين قاتلوا من أجل الحرية والعدالة والمساواة وسيادة القانون. هناك عدة مشكلات رافقت هذا المشروع الإسلامي، وأبرزت بقوة الأصوات والتجمعات المعارضة لإنشائه، أولها التوقيت، فقد برز المشروع في وقت تستعد فيه أمريكا لانتخابات النصف الثاني من السنة التشريعية للكونجرس، فوجد فيه الانتهازيون أمثال مرشحة الرئاسة الفاشلة سارة بيلين، قضية يستطيعون من خلالها أن يستقطبوا أصوات التيارات العنصرية والصهيونية، حتى الرئيس أوباما اضطر للتراجع بعض الشيء عن تأييده لمشروع المسجد، دعمًا للمرشحين من حزبه الديموقراطي، وتحضيرًا للانتخابات الرئاسية المقبلة. المشكلة الأكبر هي سيطرة اللوبي الصهيوني والجالية اليهودية الثرية، على معظم وسائل الإعلام الأمريكية، المرئية والمقروءة والمسموعة، التي تركز أضواءها على تحركات معارضي مشروع المسجد، وتحجب أصوات التأييد فلا تعطيها من الاهتمام إلاّ أقل القليل، انطلاقًا من سياسة ثابتة هدفها على الدوام تخويف الأمريكيين من الإسلام والمسلمين، ونشر الكراهية والعنصرية بينهم، وجعلهم يحسون بأنهم محاصرون في عقر دارهم، أو يتعرضون لغزو خارجي كريه. يبقى الأهم، وهو غيبة العالم العربي والإسلامي عن النزول بكل ثقله، الى أعماق الشعب الأمريكي، والتلاحم مع الكثير من القوى الأمريكية الخيرة والفاعلة، التي تساند قضايا العرب والمسلمين وترحب بوجودهم، وهو فشل تاريخي ذريع، تدفع الأمة ثمنه غاليًا ومروّعًا على جميع الجبهات.