بادئ ذي بدء أفتتح كلامي بقوله تعالى “يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” وبقوله صلى الله عليه وسلم “من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”، وبقوله أيضًَا “يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي” ثم أقول بعد ذلك في نظرة وتأمل خاص تبدى لي: نحن في شهر فضيل، شرعت فيه عبادة معينة مخصوصة بنوع مخصوص من التعبد. وهذه العبادة الهم الأكبر فيها الترك، بمعنى اترك ما اعتدت عليه مما هو مباح لك أصلًَا، ولو نظرنا إلى المفهوم الشرعي للصيام بمصطلحه العلمي عند الفقهاء لقلنا الصيام: “هو التعبد لله بترك المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس”، مما يعني أن هناك زمنًا تترك فيه أمورًا ليس مطلوبًَا أن تترك في غيره، بمعنى أوضح: تترك ما أباح الله، امتثالًَا لأمر الله في زمن حدده الله. فما الحكمة العظمى من هذه العملية، أي عملية الترك لهذه المباحات؟ مما لاشك فيه أن الإجابة ينبغي أن تكون ضمن منظومة وسياق لا تخرج عنه، وهو أن هذا الترك الأصل فيه إذا كان مطلوبًَا من جهة العلو، فإنه يكون نوعًَا من الحرمان، والحرمان في حق المأمور يكون بمعنى طلب الترك، وذلك فيه إحساس بالألم، والألم نوع من العذاب، ويدل على ذلك قوله تعالى (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلاَّ ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنَّا لصادقون) ولكن ما المقصود به هنا في عبادة الصيام؟ لا شك أنه ليس المقصود منه العذاب في سياق الصيام إذ ان ما ينتج من ألم وحرمان عن العبادة، إنما هو من تراتيب الاتباع التي ينتج عنها الأجر، ويتحصل منها بعض مقاصد تلك العبادة؛ لأن الله تعالى يقول (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) ومما لا شك فيه أيضًَا، أن امتثال الأمر ليس سببًَا للعذاب؛ فلذلك نقول مطمئنين إن امتثال الأمر بترك المفطرات - وهي من المباحات في غير شهر الصيام في موضوع الصيام - في هذه الأمة المحمدية ليس بعذاب، بينما كان طلب الترك والحرمان في بعض الأمم السابقة نوعًَا من العذاب كما عند اليهود في الآية السابقة. إذًَا خلصنا مما سبق أن طلب الترك للمباحات حال الصيام في هذه الأمة المحمدية ليس نوعًَا من العذاب، بينما عوقبت أمم سابقة بالمنع وطلب ترك المباحات. ثم ننظر أيضًَا ضمن السياق، أن طلب الترك في هذه الأمة فضلًَا عن أنه ليس بعذاب، نجده على النقيض إذ هو عبادة من أجلِّ العبادات، بل عُدَّت ركنًَا من أركان الدين. ثم ننظر أيضًَا أن هذا الترك ليس مستمرًَا، بل هو في وقت مخصوص من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم هو ليس على مدى العام، بل هو في شهر من اثني عشر شهرًَا، ثم هو أيضًَا ليس في جانب واحد، بمعنى أن الترك ليس مخصصًَا بالأكل والشرب، بل هو يشمل جوانب أخرى كالنكاح لقوله:(يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي). وأيضًَا هو علة لمعلول، وإن كان هذا المعلول ليس مؤثرًَا على أصل العبادة من حيث قبولها أو عدمها، وهذا المعلول إنما هو محصلة لذلك الترك والذي هو ترك فضول المحرمات، والتي ربما استخف بها، وتجرأ عليها كثير من الناس في غير رمضان: كالنظر والسماع المحرمين والغيبة والدخان وغير ذلك من المحرمات، فإذا ما نظرنا لهذه الأمور بمجموعها لا بأفرادها، وبكليتها لا بجزئيتها نظرة فحص وتأمل، علمنا أن المقصود بالصيام، وما فيه من ترك ليس مجرد الترك، بل هناك هدف أسمى، وهذا الهدف الأسمى أعلى غاياته حصول أثر في قلب المرء، وهذا الأثر إنما هو نتيجة قرار التقوى في محلها بسبب ذلك الترك، وهذه التقوى هي غاية عظمى، ومقصد من مقاصد الشرع العظام، وهي غاية في ذاتها يطمح للوصول إليها، وهي وسيلة لغيرها، إذ يطمح للوصول بها لغيرها، ومَثَلُ هذه الغاية التراتيبية في التقوى؛ كمثل رجل يكابد ويسعى ويشمر ويجتهد حتى يصل إلى أعلى قمة الجبل فهنا السعي والكد وسيلة للوصول إلى القمة، ولكن إذا وصل إلى القمة فتمكنه من هذه القمة يُلزِمه أن يجعلها منطلقًَا لراحته، فيشمر ويسعى ألاَّ يأتي من يزيحه عن هذه القمة. إذًَا حق لنا أن نتساءل بعد ذلك، ما فلسفة الصيام الفعلية؟ نحن نعلم أن الإنسان في حياته يسير إلى غاية، وهذه الغاية قد يعتري طريق الوصول إليها شواغل وملهيات وعقبات وموانع، فما هو السبيل لإزالة كل تلك الحواجز والعقبات والموانع والشواغل؟ الجواب: إن الصيام له فلسفة، وهذه الفلسفة هي من حكم الصيام، إذ باعتبار أن طلب الترك للمباحات عبادة، يتضح لنا أن الإنسان قد يصاب في حياته ببعض المثبطات من عجز وكسل وملهيات وكيد الشيطان، فيظن من نفسه إذا نظر إلى التكاليف، أن النفس قد تفنى قبل أن يؤدي تلك التكاليف، وأنه من سابع المستحيلات أن يقوى لفعلها، أو أن يقدر عليها خاصة إذا ما نظر لوضعه ونفسيته المنهزمة المصابة بالخور والخمول والضعف لدرجة أنها تشاغلت أو نسيت أو توهمت عجزها عن أن تفعل ما يملى عليها شرعًَا، حتى إنك إذا ما طلبت من أحد هؤلاء أن يرجع إلى الله أو يتوب عن انكبابه على المعاصي لقال لك لعل الله أن يهديني، هذا جوابه الذي تمليه عليه نفسه المهزومة، وإلا َّ في قرارة نفس الكثير من هؤلاء حسرة وندامة ورغبة في العودة والتوبة والإنابة، ولكنهم بما أحيط بهم من وهم وعجز وأسباب التثبيط، من مثل النفس الأمَّارة بالسوء والشيطان والهوى وأصحاب السوء، بل وبهرج الحياة الدنيا الذي يجرهم إليها جرًَا يعتقدون عجزهم؛ فلذلك شرع الصيام لبيان؛ أن يا إنسان، يا من تظن من نفسك عدم القدرة على العودة إلى الله، وعدم القدرة على ترك المنكرات، وعدم القدرة عن التخلي عما اعتدت عليه من الملهيات، هأنت تترك المباحات فتركك للمحرمات أسهل بالنسبة لك إن كنت تعقل، ها أنت بصيامك عما أباح الله، وليس عما حرم الله، وتركك له دليل على أن القدرة موجودة، وأن المحل قابل للتلقي والصلاح والانصلاح، فمن يترك ما يباح ألا ترى أنه أقدر على ترك ما ليس بمباح! ثم إذا نظرنا تجاه ذلك المباح المطلوب تركه تعبدًَا؛ لوجدنا أنه يشمل أعظم شهوتين يتطلع إليهما الإنسان ألا وهما شهوتا البطن والفرج، وهاتان الشهوتان سبب أمراض الشهوات التي هي أعظم أسباب هلاك ابن آدم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه ضمنت له الجنة) ويقول (إن تحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى) فمن دلالة مفهوم هذين الحديثين يتضح أن شهوة الفرج والبطن من اكبر المهلكات.