كنتُ في زيارة لكندا قبيل رمضان. أقمتُ خلالها لأيام عند ابني الدكتور أيمن، الذي يكمل دراسته العليا هناك، ودعانا أحد زملائه ذات ليلة للعشاء، وعجبتُ حين شاهدتُ القنوات الفضائية العربية لديه، وكأنه في المملكة، أو أي دولة عربية أخرى. وذلك لم يكن متوفرًا من قبل، وعلمتُ أن هناك بعض الشركات التي توفّر للعرب اشتراكًا في القنوات العربية يشملها كلها، أو أهمها على الأقل. وكان من ضمن المدعوين أخ باكستاني مقيم في كندا، يتحدث العربية بطلاقة، ويمكن وصفه بأنه ملتزم إلى حد ما، وبعيد عن التشدّد والتطرّف. وقد أبدى هذا الأخ سعادته بداية لوجود القنوات الفضائية العربية، إلى أن بدأ أحد الحاضرين تقليبها واحدة تلو الأخرى ما بين فنية، وإخبارية، وإسلامية، ورياضية، وسواها، وكنتُ أرقبُ ذلك، وأركّزُ على ردّة فعل المشاهد الباكستاني، ولأن رمضان كان قريبًا، كان هناك تنافس محموم وملحوظ بين القنوات في تقديم البرامج الرمضانية كما تُسمّى، وتُسمّى كذلك المسلسلات الرمضانية، والتمثيليات الرمضانية، إلى آخر القائمة المعروفة. وإذ بالباكستاني يُصاب بالدهشة، والذُعر، خصوصًا حين رأى إعلانًا عن مسلسل يُعرض في رمضان في إحدى القنوات عنوانه (العار)، وظهر الإعلان عنه على الشاشة هكذا، وبالخط العريض: (العار في رمضان)! وقد شاهدتُ ذلك بنفسي، فأخذ الأخ الباكستاني يحاورني، ويحاور بعض الحضور حول هذه الظاهرة العجيبة الغريبة كما سمّاها. فسأل: هل ما فهمته صحيح؟ هل تُعرض كل هذه البرامج والمسلسلات والتمثيليات والأفلام في رمضان في العالم العربي؟ أجابه أحد الحاضرين: نعم، وأكثر منها.. فنحن لا نستقبل هنا إلاّ بعض القنوات. ازدادت دهشة الباكستاني وقال: وفي خضم هذا السيل العرم من البرامج، هل يجد المسلمون العرب أيّ وقت للتعبّد في هذا الشهر الكريم؟ أنا متأكد أن معظمها يُعرض في الليل، فهل يبقى وقت لديكم للتراويح، والتهجد، وقيام الليل؟ أجبتُ: صدق ظنك يا أخي فكثير من هذه البرامج يتزامن مع صلاة التراويح مع الأسف، ويشغل بعض الغافلين عن الصلاة، ولكن هناك الكثير من الناس في بلادنا المملكة العربية السعودية -ولله الحمد- لا تلهيهم الفضائيات عن عباداتهم في هذا الشهر الكريم. وسألته: ولكن قل لي: هل يحدث عندكم شيء كهذا في باكستان؟ بمعنى أن يُخص رمضان بأكثر البرامج التفزيونية جذبًا للمشاهدين، خلاف الشهور الأخرى؟ فأجاب: بالطبع لا يا أخي. ونحن دولة إسلامية كبرى، كل ما هنالك: برامج دينية خاصة بالمناسبة، أمّا البرامج التلفزيونية الأخرى فتبقى كما هي دون أي تغيير. ودعني أقل لك شيئًا آخر، لقد عشتُ في دولتين إسلاميتين أُخريين هما ماليزيا، وإندونيسيا حين كنتُ طالبًا، ولم أشهد شيئًا يشبه ما أراه اليوم باستغراب شديد في التلفزيون العربي. وما برح أن سألني: وبث هذه المسلسلات والبرامج هل يستمر طوال الليل؟ قلت له: نعم للأسف، البث مستمر إلى أذان الفجر، وقد يكون هناك برامج أخرى بعد الفجر كذلك. فزاد استغراب الأخ الباكستاني وقال: ألا يعيقُ ذلك الناس من التوجّه إلى أعمالهم مبكّرين؟ قال له أحد الحاضرين: إن ساعات العمل تُخفف في معظم الدول العربية، خصوصًا في الدول الحارة، وغالبًا ما يبدأ العمل في العاشرة صباحًا. قال: ولكن نحن نعيش في بلد شديد الحرارة كذلك، وليس لدينا أي وسائل للتبريد، ومع ذلك نصحو مبكّرين، ونتّجه إلى أعمالنا كأي شهر من شهور العام، بل إن العمل في وقت مبكر مبعث على النشاط والحيوية. انتهى الحوار فيما بيننا بحلول وقت العشاء، ولكن الحوار ترك في نفسي ونفوس الحاضرين الكثير، فهم لم يفكروا في هذا الواقع الذي نعيشه منذ سنوات طوال سبقت عهد الفضائيات، حين كنا نرى (فوازير رمضان) على شاشة التلفزيون المصري وسواها، وهي برامج ليس فيها سوى الرقص، والغناء، والخلاعة، وتؤديها أكثر الراقصات انحلالاً. أقول وبالله التوفيق إننا لسنا ضد الترفيه البريء، ولدينا الفضائيات في بيوتنا، ونريد أن نروّح عن قلوبنا ساعة بعد ساعة، ولكننا ضد أن يكون رمضان موسم البرامج المثيرة والمنحلة الجاذبة للناس، والصارفة لهم عن عباداتهم في كثير من الأحيان، وعن خشوعهم وصفاء نفوسهم في نهار رمضان وليله. لقد لفت نظر هذه الأخ الباكستاني عنوان (العار في رمضان) كما بثته إحدى الفضائيات، وحمدت الله أن لم يلتفت إلى عنوانات أخرى أنكى وأشد بلاء مثل (فلانة.. وأزواجها الخمسة)، الذي يشارك فيه الممثل التائب حسن يوسف من عجب. وسوى ذلك من العنوانات العجيبة مثل (شر النفوس)، وغيرها. وأعلم ويعلم غيري من المشتغلين بالإعلام أن حشد هذا الكم الهائل من الأعمال الفنية كما تسمّى في رمضان ليس إلاَّ لتحصيل أكبر قدر من العائدات من الإعلانات التجارية الباهظة. إنه حقًّا (العار في رمضان)، الذي لا توصم به إلاَّ قنواتنا العربية، والعربية فقط.