حاجتنا إلى القراءة تفوق حاجتنا إلى الكتابة أضعافًا مضاعفة، ومع أنَّ القراءة وجه آخر للكتابة، أو هي الزاد المعرفي لكلّ كاتب، بحيث لا يمكن لأحدٍ أن يتصوَّر كاتبًا خالي الذهن من قراءة سابقة تكون مدادًا لما يكتب، أيًّا كانت هذه القراءة، وعلى أيّ مستوى من المستويات، إلاَّ أنَّ الواقع المشهود فيما نقرأ من وفرة الكتّاب يدلُّ على أنَّ ثمة خللاً في فهم العلاقة بين القراءة والكتابة، أو أنَّ ثمة قلبًا لمعادلة العربة والحصان، إذ أصبحت العربة هي التي تجرُّ الحصان، وليس العكس، فالقراءة، بحسب المعادلة المقلوبة، تجيء تاليةً للكتابة، بمعنى أنّه لم يعد هناك من يقرأ ليكتب، وإنما هناك من يكتب ليقرأ: ليقرأ ما كَتَب أولاً، ثم ليقرأ ما كُتِب عنه ثانيًا، ثم ليقرأ ما يحفّزه لكتابةٍ جديدة تضمن له أن يمتدّ عبر سلالة كتابيّة ليصبح مقروءًا أكثر ! والحقّ أنَّ سؤال القراءة الأهمّ، كما هو سؤال كل المشاريع الكبرى في حياتنا، الذي هو ثالث ثلاثة أسئلة كبرى: لماذا؟ وماذا؟ وكيف؟ هذا السؤال، برغم سهولة الإجابة عنه يحتاج إلى إجابةٍ أوسع وأعمق تضع حدّا لهذا السؤال: لماذا نقرأ؟ فنحن نقرأ لا لتحصيل المعرفة، ولا للوجود الثقافي في الإعلام المقروء، بل نقرأ لأنَّ القراءة نشاطٌ عقليّ لا نموّ للعقل بدونه، ولأنَّ القراءة جسر أخضر يعبر بنا إلى عالم أوسع من عالم الواقع المحاصر بصراع الأفكار، نقرأ لأنّنا لا نستطيع فهم العالم من حولنا إلا بفهم جذور العالم السابق الذي انطوى في ذاكرتنا الثقافيّة، ونقرأ، أيضًا، لفهم العالم الموازي الذي يمتدّ بمحاذاتنا، ونقرأ لأنَّ القراءة نافذة تطلّ إلى عالم آخر محجوب عنا ولا نستطيع الوصول إليه إلاّ من خلال القراءة . بهذا تظهر لنا قيمة القراءة وأهميّتها بما يجعلها أكبر من أن تكون غابة صغيرة يقصدها حطّابٌ بفأس صدئة ليحتطب منها أعوادًا يابسة لكتابةٍ بائسة!