الخطابة فنٌّ عربي أصيل، له تاريخ ممتد في عمق الثقافة العربيّة، وكان الشاعر والخطيب من أهم أعمدة المجتمع مع الفارس والكريم، وقد سجّل التاريخ أسماء عدد من الخطباء المفلقين الذين كانت لهم بلغة وفصاحة وقوّة بيان، وسطّروا بخطبهم ملاحم كلاميّة لا تقلّ في تأثيرها عن ملاحم الحرب، بل إنّ قادة الجيوش والأمراء كانوا خطباء يلهبون حماس الأفراد والجيوش والعامة لمواجهة الأخطار ومهاجمة الأعداء والذود عن حياض القبيلة وديارها وأهلها. وقد مرّت الخطابة بتحوّلات عبر تاريخها، وأصبحت لها تقاليد راسخة تمتدّ من المقدّمات، مرورًا بمتن الموضوع، ثمّ الختام. وتغلغلت في ثقافة القوم إلى أن أصبح الخطيب أحد العناصر المهمّة؛ فأصبحت هناك وظائف للخطباء يتنافسون عليها ويتسابقون للحصول على المنابر العليا التي من شأنها أن تحدّد درجاتهم ورتبهم في العلم ومواقفهم بين أقرانهم والمجتمع. ومرّ على النّاس زمن ترسّخت فيه تقاليد الخطابة الدينيّة؛ وخاصّة خطبة الجمعة التي جاء عليها زمن أصبحت فيه تقاليدها تعرّض بالويل والثبور وعظائم الأمور للأعداء، وتدعو على غير المسلمين بأن يقتلهم الله فردًا فردًا ولا يغادر منهم أحدًا، وأن يمزّقهم الله شرّ ممزّق ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأن تكون أموالهم ونساؤهم غنائم للمسلمين. ثمّ نُلاحظ الآن أنّ هذا الخطاب قد تغيّر لدى الكثيرين، ولم يعد صيغة نمطيّة في منابر ليست قليلة أصبحت توجّه لمناقشة القضايا الساخنة التي تمثّل خلافات بين فقهاء وعلماء وأمور تخصّ فتاوى في قضايا معيّنة تهمّ فئة محدودة، ممّا جعل العامة والشرائح الكبرى بعيدة عن اهتمام الخطباء الذين لم يعد لهم اهتمام واضح بتحسّس قضاياهم وما يشغلهم من أمور دينيّة، ولعلّه سيأتي على الخطباء يوم تصبح فيه الخطبة بيانًا ليس فيه سحر البيان ولا حكمة الإنسان.