سُئلت عن جدة والتاريخ، فأجبت بأن جدة متحف تاريخي لم تُفتح أبوابه.. وفي الغرب نلاحظ أن المدن تنبش في تاريخها عن الأحداث والشخصيات لعلها تستنبط منها مجدًا أو تراثًا، أو تضيف إلى سجلها قصة أو حدثًا، فمدينة تخلد ذكرى مرور عالم أو فيلسوف بها، وأخرى تتحدث عن معركة وقعت في أراضيها بين جيشين غريبين لا علاقة لها بأي منهما، وثالثة تفتخر بأديب ولد في إحدى حواريها وتجعل من بيته متحفًا ومزارًا.. أمّا جدة التي يكاد يعشعش التاريخ في كل زاوية من زواياها فإنك لا تجد من الشواهد والمعالم ما يدلك على ذلك. ابدأ بنشأة جدة وتأسيسها حيث تقول الروايات إنها قطنت لأول مرة قبل أكثر من ألفين ومائتي عام، وانتقل إلى الحدث التاريخي الأهم في حياة جدة، وهو إعلان الخليفة الراشد عثمان بن عفان جدة ميناء وحيدًا للحرم المكي الشريف وذلك في العام الخامس والعشرين للهجرة، وأعبر بالرحلات التي قام بها عدد من الرحالة والمؤرخين وسجلوا وصفًا حيًّا ودقيقًا لأوجه الحياة في جدة في الفترات التي زاروها فيها، أفلا يستحق تاريخ جدة ونشأتها وتطورها متحفًا خاصًّا يحكي روايتها؟ ثم تأمل في الهجرة النبوية الشريفة حيث يذكر الرواة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مر بمحاذاة شرم أبحر، وأنه قد استراح في عسفان، أفلا يستحق مسار الهجرة الشريفة أن يتفرغ الباحثون لدراسته، وتتبعه، ووضع مراكز على امتداده تحكي تاريخ الرسالة والهجرة لتتعلم الأجيال من معانيها، وتقتدي بالرسول الأعظم وهو يجاهد لإعلاء كلمة الله؟! وحكاية جدة مع البحر هي قصة نسيج متشابك، فالبحر هو رزقها ومصدر غذاء أبنائها، وواجهتها نحو العالم، وميناؤها البحري هو المرفأ التجاري الأول للمملكة العربية السعودية، والأكبر في البحر الأحمر، وأحد أقدم الموانئ في المنطقة، وهو نقطة وصول الحجيج، أفلا ينبغي أن يكون لجدة متحف بحري يحكي قصة غرامها، وحياتها مع البحر؟ ثم تأمّل معي في محاولة غزو جدة التي قام بها البرتغاليون قبل بضعة قرون، وكيف استطاعت جدة أن تصمد في وجه الغزاة، وأن تستعصي على الفتح، وألا تسقط كما سقطت كثير من المدن والموانئ في البحر الأحمر، وعلى سواحل إفريقيا، وخليج عمان، والخليج العربي، وفي شواطئ الهند وغيرها، أفلا يستحق هذا الصمود التاريخي والنصر الذي اندحرت به قوات الغزاة أن يُخلّد في متحف خاص، وبانوراما عسكرية تاريخية تروي الحدث للأجيال القادمة؟. وعلاقة جدة بالحج وروابطها التاريخية ببلاد العالم وصلاتها بمدن المملكة مثل الطائف، والقنفذة، وأبها، والمدينتين المقدستين، أفلا يشكل هذا التراث الخصب مادة ثرية لمتاحف متعددة، فضلاً عن المتاحف الحديثة مثل متاحف الطيران والعلوم، وفضلاً عن الاحتفاء بشعراء جدة وأدبائها وعلمائها، وتحويل منازلهم الى متاحف أدبية وفكرية وتراثية؟ جدة متحف كبير لم تفتح أبوابه بعد.. ولا أدري إن لم يكن الآن فمتى؟