* صديق مثقف ثقافة عالية جداً يقول في حديثه عن الذوات البشرية واختلافاتها وقدرات كل واحد منها على مُعاركة الحياة ومواصلة السيرورة الحياتية بحلوها ومرها، بانتصاراتها وانكساراتها، بنجاحاتها وإخفاقاتها: «البعض ذاته كورقة ريح تحتاج إلى سنديانة ضخمة تسنده من العواصف.. والمقتدر هو مَن يجعل من روحه القوية والشفافة تلك السنديانة لتتغلب على أي شيء قد ينال من أعصابه». * لثقتي في عمق معرفة الصديق، ولمعرفتي برزانته أخذت كل مضامين ودلالات قوله كمسلّمة وحقيقة حياتية لا تحتاج إلى نقاش أو جدال.. فمن المعروف أن كل نفس بشرية تختلف في سلوكياتها وتصرفاتها وتعاملاتها مع الحياة ومحيطها المجتمعي باختلاف تكويناتها الفيزيولوجية والنفسية، إضافة إلى تجاربها وخبراتها الحياتية إمّا المتراكمة أو المعدمة. * كثيرون يمرون بعواصف وزوابع تهد الجبال، وتزلزل الرجال الأشداد، ولكنهم وبما يملكون من قدرات ذاتية نفسية وفيزيولوجية استطاعوا تخطي تلك المراحل الخطرة من حياتهم، بل إن بعضهم حوّلها إلى مصدر قوة وحافز للتقدم والارتقاء غصباً عن كل الظروف والسلبيات المحيطة به، وهكذا نوعية هم مَن تنطبق عليهم مقولة: «الأزمة التي لا تقتلك تقويك». * أمّا آخرون وممّن لم يمنحوا هبة القوة الذاتية والرسوخ النفسي فهؤلاء ينكسرون بكل سهولة أمام أقل المشكلات خاصة العاطفية، وغالباً ما تكون ردود أفعالهم انعكاسية في سلبيتها على ذواتهم هم أنفسهم، فيميلون إلى الانزواء والابتعاد عن محيطهم المجتمعي، ومع تراكم الهموم وإتاحتهم الفرصة للهواجس بالتغلغل إلى دواخلهم يدفعون بأنفسهم إلى مراحل خطيرة جداً تبدأ بالاكتئاب وتنتهي والعياذ بالله بالانتحار. * العجيب كما فهمت من قول صديقي المثقف أن كل فرد منا يمر بذات المشكلات والظروف في كل مراحل حياته العمرية حتى وإن ظن البعض بغير ذلك. فلا يوجد إنسان، والكلام للصديق المثقف، لم يواجه مشكلات أو تمر عليه مراحل كانت في تطوراتها وانعكاساتها عليه صعبة، ولكن من يملكون روحاً قوية وشفافة هم من يستطيعون تجاوز تلك العواصف والسير بخطى واثقة في دروب الحياة ومساربها. * وأدرك أنا ذاتي بعد حديث الصديق أن بعضاً من أصحاب الذوات الرقيقة والحساسة يعيشون مثالية طوباوية قد لا تكون متوافقة مع الزمن والبيئة المجتمعية التي تتماس معها تلك الذوات، فمع أي انحراف لمبدأ أو سلوك تنقلب حياة هكذا ذوات إلى جحيم ومحيط غير قابل للعيش. * وصحيح أن زمننا الذي نحياه تغيرت فيه أغلب المبادئ، وانحرفت فيه معظم المعايير فأصبح الصدق والنزاهة والعزة والالتزام سذاجة وطيبة زائدة، وغدت الفهلوة ومعرفة من أين تؤكل الكتف، والقفز على كل الحبال، والرقص على كل الأوتار المراكب التي تدفع صاحبها إلى مستويات وظيفية ومجتمعية أرفع وأكثر وجاهة.. إلَّا أنني مؤمن يقيناً أن كل ذلك زائف، وأن الفضائل والمبادئ لا تُجزَّأ ولا تُنسَّب، وأن من يملك القدرة على التحكم في ذاته يستطيع أن يجعل من روحه السنديانة الضخمة التي تسنده وهو مرفوع الرأس رغماً عن كل الزوابع والأعاصير.