ها نحن قد طوينا نصف عام من أعمارنا، وأضفناه لما سبقه من سني مسيرتنا، ولا يدري أحد منا هل سيبقى إلى نهاية النصف الآخر، أم يسبقه إلى الرفيق الأعلى. مهما طالت بنا الأعمار، وحسنت لنا الأبرار، فهي نتيجة حتمية، لا يساورها أي شك، ولكن يا ترى ماذا أعددنا لما بعد ذلك اليوم اليقيني، مما قلناه بألسنتنا وكتبناه بأيدينا ومشيناه بأقدامنا، فلو آمنا حق الإيمان بقوله وفعله المقتضى؛ لما كان حالنا مثل الحال. كل واحد منا حر في نفسه وقوله وفعله، ولكن حريته تنتهي عند حدَّي الخالق والمخلوق، فلا نعتدي على حق الله ولو كان قائماً على المسامحة، ولا نتجاوز حقوق الآخرين لأنها مبنية على المشاحة، وطالما بالغنا في دعوى اعتداء الحكام على شعوبهم أو تقصيرهم في حقهم، وتجاهلنا الاعتداء الأكبر من أفراد المجتمع على بعضهم، وأحياناً يضاف له شآبيب التبرير وأقداح التسويغ، ومثلهم كمن لم ينس توجيه ذبيحته نحو القبلة ويسمي عليها!. ولنكن صادقين مع أنفسنا بأن نضع أيدينا على الجرح الأكبر، لنجده ليس من الخارج ولا من الحاكم، وإنما هو من تقصير واعتداء بعضنا على بعض، لأننا كمجتمع نعيش سوياً، ونتعامل معاً، وبيننا مصالح شتى، وبالتالي فما يحصل في حقوقنا من بخس نتحمله نحن فيما بيننا، دون أن نبرئ ساحاتنا لنرميه على غيرنا. كنت أتأمل خلال الفترة الماضية في مشكلة استمرار قضايانا بلا حل، وعند الحل الجزئي نكررها بعد وقت قصير دون التنبه لها، فوجدت السبب في الغالب يعود لعدم تصورنا لكُنه مشاكلنا بحقيقتها وحجمها من جهة، وأسبابها ومن ثم نتائجها من جهة أخرى، وأخيراً عجزنا المرتجل عن الحلول النافذة الناجزة، وجميع ذلك يعود في نظري إلى فقداننا للمفكرين الراصدين المحللين، الذين يتأملون مسيرتنا الاجتماعية والثقافية اليومية ومشاكلها، ومن ثم يحللونها من شتى جوانبها، ويوثقونها من جميع زواياها، ليساعدونا على حلها من جهة، ثم على تلافي الوقوع فيها من جهة أخرى. ولأجل ألا يكون مقالي عائماً في هيام البوادي، فأمثل له بنموذج على النصف الأول لهذا العام، حيث مضى كغيره دون أن نجد الكاتب الذي يغوص في بحره ليكشف لنا عن عمقه قبل ساحله، لنعرف كيف وقعنا، ولئلا نكرر الخطأ نفسه من جديد، لأننا نجهل الحقائق أولاً، ونعجز عن معالجتها ثانياً، ومن ثم من باب أولى أن تعود ونعود معها من جديد. في المجتمعات الأخرى أجد الكثير من المفكرين والمثقفين يقومون بهذا الواجب الغائب، وفي أحيان أخرى يُقام به كعمل مؤسسي، يراقب ويحلل ويفسر ويدون الوقائع والورائيات والأماميات، ومن ثم يكونون أقدر على العلاج من ناحية وعلى المناعة والوقاية في المستقبل من ناحية أخرى. وهذه الحال كحال المريض حين يشعر بالألم دون أن يعرف التشخيص ويشفى دون أن يعرف السبب، وما هي إلا أيام ليعاوده المرض نفسه وربما أشد من جديد، ودون أن يدرك أنه من جنسه ولا يعرف علاجه، فيعود في ذات الدائرة من جديد، وهكذا دواليك، ومثله حياتنا الاجتماعية وأخطاؤنا في الفكر والممارسة، لأننا لا يمكننا أن نرى أنفسنا، ونحتاج لمبصر بصير يتعهدنا بمتابعته ويرعانا بفكره حتى نبلغ الغاية. ومن ذلك حاجتنا لمن يحلل واقعنا الفكري، والاجتماعي، والاقتصادي، وليس السياسي الذي أغرقنا أوقاتنا بهجائياته، فنريد من يساعدنا على تفكيك رموز مسيرتنا، وتحليل طريقتنا، وتوصية مسلكنا، حتى ننجوا، ولا نعود من جديد، ونحفظ التوفيق لنكرره ونحن نردد بثقة: هل من مزيد؟. ما أحوجنا لهذا الراصد المحلل في شتى حوائجنا الحياتية، وليس فقط لحوائجنا الأخروية، لأن رؤيتنا عامشة، وذاكرتنا مثقوبة، ووعينا مشوش، وإذا كان التدوين من عمل مؤسسي، فهو الأنجز والأكمل والأدوم، حتى لا نكون في تيه وحيرة لتصور تجاربنا ومشاكلنا المجتمعية. نريد التعامل مع أحوالنا لنفهم طبيعة نجاحاتنا وأزماتنا، ونقرأ ما وراء السطور لكل تصريح رسمي، ونشاط ثقافي، وتصرف اجتماعي، وعمود صحفي، وفتوى دينية، ومشكلة اقتصادية، ونازلة فكرية، وذلك من أجل أن "نتصور" الحقيقة، لنستطيع أن "نحكم" بعدل وبلا مواربة. ولكوننا نفتقد قراءات التجارب والتحولات، فقد عجزنا عن الحل، وعن تلافي التكرار من باب أولى، ومن أبرز هذه القراءات كتاب "السعودية سيرة دولة ومجتمع" لأخي الأستاذ عبد العزيز الخضر، ولذا كتب له القبول والاستفادة، وبغض النظر عن درجة التشخيص ودقته، فيبقى أنه جهد فريد وعمل مميز، أنار لنا جوانب معتمة، ومراحل هائمة، مع أنني أتحفظ على بعض رؤيته وأتوقف عند بعض نتائجه، إلا أنه قام بتحريك العجلة، وأدار الدواليب، ولكننا أحياناً لا نجيد سوى وضع العصي فيها، وربما جعلناها قربة وزلفى، مع أننا في المبدأ نفتقد القراءة فضلاً عن التتبع والتحليل والكتابة، وكأننا لا نجيد إلا مهنة الهدم لا البناء، ونرجوا أن يفتح الباب على مزيد من القراءات العميقة التي غابت عن مسيرتنا المعاصرة،، بعكس مسيرة الآخرين في المشرق والمغرب. [email protected]