كما يُلاحظ القَارئ، بأنَّ القَلم -هنا- مَشغول بالهَمِّ «المَحلي»، فليس مِن طَبيعتي التَّدخُّل في شؤون الدّول الأُخرى، وليس لديَّ -كما لَدى غيري- رَأسٌ كَبيرٌ بحيثُ أجوب العَالَم، ثُمَّ آتيكم مِن سِبأ بنَبأٍ يَقين..! إنَّ الاهتمام بالشَّأن المَحلي «القَريب»، أصعب بكَثير مِن الاهتمام بالشَّأن الخَارجي «البَعيد»، والفَلاسفة دَائمًا يُؤكِّدون على أنَّ الإنسان يَرى كُلّ مَا حوله، ولكنَّه لا يَرى نَفسه إلَّا ب«مرآة»، وما نفوسنا التي تَتطلَّب «المرآة» إلَّا هذا الشَّأن المَحلي، الذي نَتهرَّب مِن مواجهته، بتَتبُّع عَورات الآخرين، ليس حُبًّا فيهم، وإنَّما لغَضِّ الطَّرف عمَّا يَحدث تَحت أقدامنا..! مِن هُنا لا مَفر مِن الارتداد إلى الدَّاخل، وتَناول قَضاياه، صَحيح أنَّ هُناك قَضايا كُبرى لا يُمكن مُناقشتها، ولكن لنَنطلق إلى مُناقشة القَضايا الصُّغرى، التي نَقدر على تَناولها، ومُلامسة جَوانب الخَلل فيها، مُقتدين في ذلك بحِكمة الفُقهاء حين قَالوا: (القيام مَع القُدرة)..! ومِن هذه الأمور الصَّغيرة التي يَجرؤ المَرء عَلى مُناقشتها، ما يُسمَّى ب«إشكاليّة أسماء الشَّوارع»، ومحاولة تَغيير أسمائها، بعد أن استقرَّ في «الفهوم» و«الجسوم» اسم معيّن، الأمر الذي يَجعلني أطرحها كقضيّة وَطنية صُغرى..! في المَدينة المُنيرة نَشأتُ في حَارتين، الأولى تُسمَّى «حَارة الأحامدة» -ونعم الاسم- ثُمَّ تَحوَّلت بقُدرة قَادر إلى «السِّيح»، ثُمَّ انتقلنا مَع الأُسرَة إلى حي يُسمَّى «المَصانع»، وإذا به بقُدرة «غير قَادر»، يَتحوَّل مَع الزَّمن إلى اسم «حي البيعة»، ومع تَحوُّل الاسمين، تَحوَّل جُزء مِن تَاريخي إلى «الزّيف»، وزَحف إلى «التَّدليس»..! وفي الرّياض هُناك شَارع في آخره «دَاركْتار» مَريض، فأسمَاه النَّاس شَارع «الدَّاركْتار»، نَظرًا لوجود هذا العملاق في نهايته، فمَا كان مِن أمانة الرّياض إلَّا أن رَفضت الرَّغبة الشَّعبيّة، وأطلقت عليه اسمًا آخر، نَسيته الآن مَع هموم الدِّراسة، وبَرد لَندن..! وفي «حَبيبة القَلب» جُدَّة، و«صَديقة الفُؤاد» الرّياض شَارعان اسمهما «التَّحلية»، وهُناك مُحاولات لتَغيير اسميهما، ولكن «الرَّغبة الشَّعبيّة» لها رَأي آخر.. ومُنذ أن عَرفتُ نَفسي، وأنا أذهب لبيت خَالتي -حفظها الله- في شَارع «الستين» في الرّياض، ثُمَّ صُدمت بأن أجد لَوحات مَكتوبًا عليها «شَارع صَلاح الدين»..! وتَسمية الشَّوارع عندما تَنطلق مِن «أهل البَلد»، تَكون لها دَلالة.. خُذ مَثلاً: كُلُّ النَّاس في بريدة -مَسقط رَأسي- يَعرفون شَارع «جَبر الخَواطر»، لأنَّ الدّولة -حَفظها الله- أرادت أن تُجبر خَاطر إحدى الأُسَر «الفَاضلة»، فعوّضتهم في ذلك الشَّارع جَبرًا لخَاطرهم، فأسماه القوم شَارع «جَبر الخَواطر»..! ومِن أجمل القصص التي أعرفها عن الشَّوارع، تلك القصّة التي ارتبطت بشَارع شَهير بالرِّياض، حيثُ أخبرني الرَّاسخون في عِلْم تَسمية الشَّوارع، أنَّ هُناك شَارعًا كَان يُسمَّى شَارع الإسلام، وقد جَرى تَغيير مُسمَّاه، لأنَّ مَن يَصف لشَخص آخر يَقول له: (خلّي شَارع الإسلام بظَهرك، واطلع مِن الإسلام، أو يا شين شَارع الإسلام دَايمًا زَحمة).. ومِن أجل هذه الألفاظ وغيرها، تَم تَغيير اسمه إلى اسم آخر لن أذكره، حتى لا يُمنع المَقال مِن النَّشر..! يا قوم.. إنَّ الأسماء جُزء مِن تَاريخ وثَقافة الأُمَم، وأي مُحاولة للعَبث بها، أو تَغييرها، سيَكون مَصيرها الفَشل.. كما أنَّها جُزءٌ مِن ذَاكرتنا، فلا تُحاولوا أن تَعبثوا بذَواكرنا، لأنَّ هذه الأسمَاء والأشيَاء؛ هي كُلّ مَا نَملك في رؤوسنا الصَّغيرة..!.