أن تكون مأزوماً نفسياً؛ فليس بالغريب ولا المستنكر في ظل أوضاع صعبة, تعيشها في دائرتك الفردية والزوجية والأسرية، أو يعيشها آخر في دائرة عمله ووظيفته وحقوقه، وثالث في دائرة همومه الواسعة للوطن والأمة.. لكن أن تغفل عن فعل التأزّم في مخرجاتك وآرائك ومواقفك وكتاباتك وأحاديثك فهو أمر مشكل حقاً؛ لأنه سيصلبك على خشبة لا تملك التحرر منها! جلست إليه فوجدته ينتقد الحكومات بحرارة ومرارة واندفاع، وورد هنا خاطران, ليس هو أول من فعل هذا، والنقد لا يضير، ولعل من أقل حقوق المواطن أن يصرخ! ثم انتقل إلى معارضيها؛ فأمطرهم بسيل من الذم الذي لا أفضّل أن أسميه شتيمة، مضى الخاطر يقول: وجهان لعملة واحدة! انتقل إلى العلماء فألغاهم بجرّة قلم.. عرض مثالاً عملياً، فانتقد صاحب المؤسسة، ثم انتقد منتقديه بضراوة، ثم انتقد منتقدي المنتقدين.. وأنهم انقسموا أقساماً .. فقسم جامل ولم يصرّح .. وقسم تجاوز وغلا .. وقسم آثر الهدوء ورابع آثر الانسحاب .. وخامس فاتني ماذا بشأنه.. أحكم الصورة السلبية على المشهد كله، فليس ثَمّ موقف يُوصف بأنه معتدل أو سليم أو عقلاني.. ولا التفات لجانب الحكمة والقدر! ثم أحاط ذلك كله بإطار شرعي، فساق محكمات من النصوص، وقصصاً من السيرة النبوية؛ تجعل ما يقوله متعين الصوابية, تام المصداقية، وأن من يشغّب عليه فهو مريض القلب، أو طامع بمكسب مادي، أو جاهل لا يعرف ما خرج من فمه.. وتحدّث عمن يظن به تأزماً؛ فشبهه بمن كانوا يرمون الأنبياء بالجنون! يا أخي أنت لست نبياً معصوماً، والأنبياء اختارهم الله وصنعهم على عينه، وتعبّد الناس بالإيمان بشخوصهم, وبما جاءوا به، وأنت لست كذلك. والأزمة النفسية ليست جنوناً ولا تقترب منه، وقد تعرض للكبار فتطول معهم أو تقصر، والشأن في الوعي بالذات وعدم الاسترسال مع دواعي التأزم, وتحويلها إلى موقف أو عقيدة أو مفاصلة مع الآخرين! لا والله يا بني لست هازئاً ولا معيّراً .. وكيف يحقّ لي ذلك, وأنا أدري أنك شاب فائق الأهمية عظيم النفع، وأن مستقبل الوطن الذي أنتمي إليه والأمّة التي أعتزّ بها منوط بك وبأمثالك، ومرهون بصفاء نفسك واعتدالها الداخلي وهدوئها الراسخ مهما ادْلهمّ حولها الظلام، ودمرت الأعاصير، واشتدت عليها الخطوب! لا والله يا بني لست أعيبك بشيء لا أبرئ نفسي منه، وإن تفاوتت بيني وبينك المقادير! تساءلت في نفسي: ألا يوجد في هذه اللوحة القاتمة بصيص من ضوء, يصلح أن يداوى به معلول التشاؤم والاكتئاب؟ ألا يتوفر في نصوص الشريعة ما يكذّب هذا التوهم المغرق في الانغلاق والتأزم ؟ هل يمكن لنفس أحاطت ذاتها بأسوار البؤس أن تعيش داخل بيتها الصغير مع زوجها وصبيتها عيشة الهدوء والرضا والاطمئنان ؟ أو أن تقيم علاقات ودّية طبيعية مع الآخرين من حولها ممن لا تشتمل نفوسهم على القدر ذاته من الاحتقان؟ هل يمكن لها أن تؤدّي دوراً إيجابياً غير الهجاء والذمّ والعتب والقصف المتواصل؟