الحِذَاء.. هذا الصَّديق، يَبدو وكأنَّه أقرب الخلّان، وأوفَى الزُّملاء، لأنَّه يَسير حيثُ تَسير، ويَقف حيثُ تَقف، وهل هناك أكثر مِن هذا الوَفاء، الذي لا تَمنحه لك الزَّوجة، أو الوَلد أو الأخ، أو الرَّفيق أو القَريب..؟! ومَع الحِذَاء نَشأتُ وكَتبتُ تَاريخي، وكَسبتُ مِنه رِزقي، حين كنتُ أعمل في «مَصنع الدّقل للأحذية»، ولكن هذا الحِذَاء الذي وَهبني الكثير، سَلب مِني شيئاً لن أنسَاه، حين سُرق حِذَائي عَلى دُفعات، وإليكم القصَّة: كنتُ أيَّام الجَامعة أدرس في المَسجد - كعادتي -، وفي ذلك المَسجد - الذي يَقع في أرض الكُردي في المدينة المُنيرة -، دَخلتُ المَسجد - كأي مواطن يَدرس، ليَتخرَّج ويَستلم وَظيفة -، ثُمَّ وَضعتُ حِذَائي في المَدخل -كأي مُسلم -، فجَاء أحد الأشقياء مِن بني يَعرب، وأخذ فَرْدة مِن حِذَائي وتَرك الأُخرى، ليَسرقها بالتَّقسيط المُريح..! خَرجتُ فوجدتُ «فَرْدة وَاحدة»، عندها لم أتصوَّر نَفسي بفَرْدة حِذَاء وَاحدة، فرَميتُ هذه الفَرْدة، فجَاء «اللص» وأخذ مَا رَميت، وجَمَع «المتعوس على خائب الرجا»، فصَار لديه حِذَاء كَامل، فَرْدة «حَلال»، والأُخرى «حَرَام» مِن السَّرقة..! مُنذ ذلك الحين، بَدَأت تَكبر معي حكاية «الحِذَاء»، ولفت نَظري أنَّ الأطفال دائماً يُحاولون «لبس أحذية الكِبار»، ولم أجد تَفسيراً لهذه الظَّاهرة، أعني لماذا يُحاول الأطفال لبس أحذية الكِبار..؟! ولعل أختنا التي تُعلِّق بنَشاط كبير «عَالية الهمّة» تَشرح لنا السَّبب..! ومِن جماليّات الحِذَاء وعلو مقداره، أنَّ الإسلام أَمر المسلمين بأن يصلّوا في «نعالهم» لمُخالفة اليهود.. كما أنَّ الشَّاعر الجميل «محمد الماغوط» يَقول عن نَفسه: (وَجهي كحِذَاء قَديم خلّفه الغُزَاة)..! وأتذكَّر أنَّني - ذات شَجاعة - سَألتُ امرأة إنجليزيّة؛ عمَّا يَشدّ ويَجذب المرأة في الرَّجُل..؟! فقالت عَلى الفور: «الأسنَان والحِذَاء»، وهذه وجهة نَظرها، ولا أدري هَل نساء حوَّاء الأُخريات؛ يَوافقنها الرَّأي، أم يَقلن لها «امعصي» (لا وألف لا)..؟! يا قوم.. إنَّ الحِذَاءَ صَديقٌ مُخلص، في زمن قَلّ فيه الأصدقَاء، والأوفياء والنُّبلاء، فاستوصوا به خيراً، وارحموا «عَزيزَ قومٍ ذَلّ».. فقد ذُكِر في القرآن: «واخلع نَعليك إنَّك بالوادِ المُقدَّس طُوى»، كما أنَّه كان الرَّفيق حين عزّ الصَّديق، والحَبيب لمّا غَاب القَريب، والخَدين عندما ذَهب «الصَّاحب المَتين»..! يا قوم.. إنَّ الحِذَاء رغم كُل ما جَرَى، مازال فَخوراً بنفسه و»بجلده»، لهذا قال عنه أحد الشّعراء: رَجلٌ إذا ضُرِبَ الحِذَاءُ بِوَجههِ صَرَخَ الحذَاءُ: بأي ذَنبٍ أُضرَبُ..؟!