* المتغيرات الاقتصادية والحياتية أحدثت تحوّلات جذرية في البُنية المجتمعية السعودية بشكل غير مسبوق إطلاقًا، وهكذا تحوّلات أمر طبيعي جدًا في حركة المجتمعات البشرية؛ لأنها -أي المجتمعات- متحرّكة، وليست ساكنة استاتيكية، وإلاّ لبقيت مثلها مثل الجماد، ومخلوقات الله الأخرى التي لا تدرك معنى لوجودها. *إلاّ أنّ ما حدث من تحوّلات هنا فوق هذه التربة المباركة، لم يكن متّسقًا مع السيرورة الحياتية لبني البشر، في كون التحوّلات تُحدث تأثيرات إيجابية تنعكس على تطور ونماء وازدهار المجتمع في كل أشكاله الحياتية، وما حدث لدينا إنّما هو انتكاسة في كثير من المظاهر الحياتية، وتأثيرات سلبية على مجمل مسيرة الكينونة المجتمعية السعودية. * ولكي لا أُتّهم بأنّي تشاؤمي أقول: إن الانتكاسات والسلبيات حصلت تحديدًا في مجال العلاقات الإنسانية، أسرية كانت، أو معارفية، أو صداقية، فلم تعدْ هذه العلاقات تُبنى على المودّة والتراحم والألفة والوفاء وكل معاني النُبل والرفعة، بل أصبح معيارها المصلحة الذاتية، والضيّقة بكل أسى. وطغيان المادة، وسيولتها التدفقية في فترات زمنية متفاوتة خلق ذهنيات مادية في نظرتها، وحكمها، وسلوكياتها كلها، وتحوّلت هكذا ذهنيات إلى قوالب جامدة من المادة تكوينها العام هيكل عظمي، وشحوم ولحوم فقط لا غير. * المشاعر والأحاسيس الإنسانية أصبحت طيفًا من أطياف الفضاء الرومانسي الذي عايشته أوروبا في فترات زمنية سابقة، فأصبح الشرق وخاصة العربي فضاء الإلهام والفروسية، والشاعرية المغلفة بالأساطير والمغامرة. * فمعنى مثل الوفاء كان في يوم من الأيام يملأ كل فضاءاتنا المجتمعية بادية وحاضرة، الصغار يلمسونه في كل مكان، فتتربّى نفوسهم على الوفاء للأهل والأصدقاء والمعارف، وكل مَن يعايشهم. ولم يكن البشر آنذاك في مسيس الحاجة إلى استجداء هذا، أو التوسل إلى ذاك، لا في مساعدة مالية، ولا في عون حياتي. * أمّا في أيامنا هذه ففضاءاتنا المجتمعية السعودية أصبحت صحارى جرداء وقاحلة من معان إنسانية كثيرة في مقدمتها الوفاء. والعجيب المحزن أن هذا الجدب لم يخلقه سوانا، فثقافتنا الإسلامية والعربية زاخرة ومليئة بكل المعاني السامية، والفضائل الإنسانية الرفيعة، وقصص الوفاء فوق الحصر، وفي كل اتجاه. * فهل هكذا جدب هو انعكاس طبيعي للجفاف الروحي والداخلي للذات، أم أن التحوّلات التي شهدها مجتمعنا أوجدت بيئة يستعصي فيها نمو وبقاء المعاني والفضائل، وبالتالي سلوكيات الفرد ومشاعره ليست سوى انعكاس لبيئته المجتمعية في كل تكوناتها المعرفية والتربوية والأخلاقية والبشرية؟ * الذي أعرفه جيدًا، وأدركه يقينًا أن «الإنسان على نفسه بصيرة»، وأن التيار المجتمعي مهما كانت قوته ليس بإمكانه جرف وسحب الراسخين في المبادئ والفضائل، وأن زاده الوحيد هم المترددون، والرماديون، فهم المنتظرون دومًا على أطراف المجرى.