شهد القرن الخامس عشر الميلادي تحولات كبرى نتج عنها انفكاك المجتمع المسيحي من رِبقة الكنيسة (الكهنوتية) وحُكم السُّلطة التقليدية، ولم تعد صكوك الغفران ذات قداسة في نفوس الدهماء والطبقة الكادحة. واليوم يقطع العرب (ثلث) القرن الخامس عشر الهجري فتتعالى صيحات المبشِّرين بقرن (تنويري نهضوي) مشابه للقرن الخامس عشر الميلادي الذي شهدته أوروبا بدءًا برائد الإصلاح «مارتن لوثر» ، غير أن المتتبع للتحولات التي شهدها ذلك القرن وما بعده يجدها لا تتوقف على الكنيسة، حيث لم يشكِّل الخروج عليها في سبيل الإصلاح إلا جزءًا من حركة إصلاحية (شاملة) لكل جوانب الحياة الدينية والعلمية والفكرية والسياسية والاقتصادية حتى نعم الأوروبي بالحرية الشخصية والديمقراطية والسلم والعدالة وحرية الرأي والفكر.. إلخ. لكنَّ السائرين -وهمًا- من العرب على خطى تنويريي أوروبا لم يعوا حدود معادلة النهضة الأوروبية؛ فركَّزوا فقط على (المؤسسات الدينية) التي برأيهم تناظر (الكنيسة) على الرغم من الاختلاف (الكلي) بين خزعبلات (باباوات) القرون الوسطى واجتهادات (الدِّينيين) في العالم العربي! جميعنا يقف في صف التقدم والتطور ويروم النهضة والإصلاح الديني وغيره، ومَن يُمانع فهو يسير عكس حركة الزمن، لكن ما هي شروط النهضة؟ وكيف قامت عند الأوروبيين؟ هذا هو السؤال الذي صُمَّ التنويريون العرب عنه. مشكلتنا في العالم العربي ليست مع (المتدينين المتشددين) وحدهم بل مع أطراف عدة (يعرفها) الجميع تقف عائقًا في طريق نهضة الشعوب العربية لكنهم يتغافلون عنها ويلوذون (بالدِّين) ليحمِّلوه تَبِعة تأخرنا! لذا أرغب من التنويريين العرب التطواف بالبلدان العربية من الماء إلى الماء فسيجدون كيانات (نحَّت) الِّدين من حياتها و(غرَّبت) مناهجها واستراتيجياتها وفكرها ومع هذا لم تحظَ بما أمَّلت، ولم تصل لمرامها فأين سببية الدِّين في تأخرها؟ وأنا أسأل هؤلاء: أين هم من الديمقراطية المغيبة في العالم العربي؟ أين هم من دعم البحث العلمي (الرصين)؟ أين هم من الحريات المسلوبة؟ أين هم من سُلطة الحديد والنار في نَواحٍ من العالم العربي؟ أين هم من المؤسسات التي لا تُعنى بالابتكارات العلمية بل تئدها في مهدها؟ أين هم من نظرة (الارتياب والملاحقات) لكل عربي شرع في تجميع آلة بشكل بدائي؟ أين هم من الفساد المالي والإداري الجاثم على أنفاس الشعوب العربية؟ يُرجع المفكر (إبراهيم البليهي) في (حوارات الفكر والثقافة) سبب التخلف العربي إلى (الانغلاق الثقافي والاستبداد السياسي)، ولهذا كان من أولويات عصر التنوير الأوروبي بالإضافة للخروج من عباءة الكنيسة هو النضال من أجل (الديمقراطية)، وعلى إثر ذلك قام الإنجليز في القرن السابع عشر الميلادي بانقلاب ضد تسلط الملوك في أوروبا، ثم قامت الثورة الفرنسية 1789م وما تبع ذلك من إقرار مبادئ حرية وحقوق الإنسان، ومن ثَمَّ شملت الثورات بلدانًا أوروبية عدة، وكان من مبادئ التنوير الالتزام التام بالموضوعية في القضايا المطروحة، وترك النوايا المسبقة تجاه الخصوم، وكل ما سبق (لم يتمثله) التنويريون العرب. وبعد.. لا زلت أتساءل: هل يستطيع التنويريون العرب أن يفعلوا ما فعله تنويريو أوروبا فيأخذوا بمقتضيات التنوير (السالفة) جميعها؟ أشك في استطاعتهم، فهم لجأوا (للمشاغبات) حول الحلقة (الأسهل)، وأوهموا الشعوب العربية بأنهم صورة حقيقية للتنوير الأوروبي، ونسوا أن تنويريي أوروبا كانت نظرتهم أعمق، وأهدافهم شاملة غير مجزوءة، وكانوا صادقين مع شعوبهم؛ لذلك (ضحَّوا) بأرواحهم، فهل يسلك تنويريو العرب مسلكهم؟ أظنهم سيقولون هذه الخطوة الأُولى، لكنَّ مضيَّ (قرن) على التنوير العربي منذ الطهطاوي والأفغاني يشي بألاَّ خطوات تلوح في الأفق، لأنهم يعلمون أنها خطوات (خَطِرة) وليست كخطوة الإصلاح الديني.