ومن المفروض أن يكون الإعلام أكثر إيجابية، وأن ينتظر حتى يتم إعلان النتيجة. وإذا كان الحكم في صالح الطبيب يكون من الأفضل أن يعلن ذلك، وألاّ يتم تسليط الضوء على إخفاقات الأطباء فقط. د. عبدالله: يمكنني أن أداخل في هذه الجزئية من منظور شرعي، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: “بدأ الإسلام غريبًا وسوف يعود غريبًا كما بدأ”، أو كما قال؛ لذلك أنصحُ دائمًا وسائل الإعلام أن تميل نحو توثيق المعلومة، ولا تكون في غربة الإسلام. للأسف الشديد الإعلام لا ينشط في إظهار الجوانب الإيجابية، بقدر نشاطه في إظهار الجوانب السلبية! فالناس أصبحوا ينظرون للأمور بمنظار أسود، ويفسّرون الأمور بطريقة سلبية. والسبب الإعلام. لابد من حسن الظن، وهو مطلوب على الدوام. فلماذا تجد وسائل الإعلام لذةَ في ترويج بعض الأمور، ولو كان ذلك على حساب القيم؟ أين هو دور البناء الإيجابي في وسائل الإعلام؟ ماذا عن أصحاب القضايا واتّجاههم لوسائل الإعلام؟ هل يتحمّلون -شرعًا- جزءًا من الوزر في عمليات التشهير التي قد تحدث للبعض؟ ويثبت براءتهم بعد ذلك! خلال السنوات الأخيرة أصبح كثير من الأطباء في قفص الاتّهام بسبب ما تنشره بعض وسائل الإعلام. حتى لو كان الخطأ مثبتًا على الطبيب، فهذا يبرر التشهير به ومحاربته؟ إذا رجعت لكثير من القضايا التي تُثار في وسائل الإعلام على أنها قضايا كبيرة وهامّة تجدها في حقيقتها غاية في البساطة، ولكن التضخيم الإعلامي تسبب في ما وصل إليه الأمر. لماذا لا تهتم وسائل الإعلام بالإيجابيات؟ كثير من المجتمعات تأخرت، وفسدت بسبب بعض وسائل الإعلام، وما يبث فيها من مفاسد. صحيح أن هناك تقصيرًا من بعض الأطباء، ولكن بالمقابل هناك جوانب مشرقة. التقصير موجود، ولكن هناك قنوات مختصة بمعالجته وتصحيحه، لكن لا ينبغي لوسائل الإعلام أن تفرح بخبر عن التقصير. د.سمر السقاف: لابد أن يكون للجنة الشرعية الطبية موقع إليكتروني على شبكة الإنترنت، بحيث توضّح حقيقة الأخطاء والمخالفات الطبية. ليس بالضرورة أن تسردها بالتفصيل، ولكن تكون هناك أرقام وإحصاءات تعبِّر عن الواقع والأوضاع. فعلى سبيل المثال ولاية إنديانا الأمريكية لديها موقع طبي موضّح به كل الأخطاء الطبية التي وقعت خلال السنوات الأربع الماضية. فلماذا لا تنشئ وزارة الصحة لدينا موقعًا مشابهًا لذلك، خاصة وأن الأخطاء ليست ظاهرة، ونحن نظل الأقل لو قورنّا بدول أخرى منها أمريكا. د. سعيد باسهيل: أقترح نشر كُتيب يشرح الحالات على أن يكون به ملخص وآراء اللجان المختصة، والحكم الذي صدر في القضية، على أن يتم توزيعه سنويًا على الأطباء. وسيساعد الكُتيّب الأطباء في تفادي الوقوع في تلك الأخطاء. د. عبدالله: لابد أن نركز على أن تفادي الأخطاء الطبية لا يكون بالتشهير بالآخرين، وذكر أخطائهم. ولهذا يمكن رصد الحالات التي لا تكون فيها مسؤولية مباشرة خاصة أن بعض الكتابات قد تثير نوعًا من ردود الأفعال الضارة، وبالتالي لا تحقق الفائدة المرجوة منها. ولابد أن نعلم أن مَن يتاجر بمثل هذه القضايا يدخل في باب الغيبة والنميمة من ألفها إلى يائها، ومَن يقمْ بهذا الفعل يهدم القيم والمجتمع والأفكار، ولو أن كل واحد منا ركّز على الجوانب الإيجابية لتغيّرت أشياء كثيرة. نعم هناك أخطاء ولا أحد يستطيع أن ينكرها، ولكن طريقة التعامل مع الأخطاء ينبغي أن تكون مختلفة عمّا نشاهده اليوم. إن الإشاعات التي تتم عن طريق الإعلام الذي يهتم بالأمور الصغيرة، ويعمل على تضخيمها تشكّل جرمًا عظيمًا في حق الإنسانية كلها. ¶ المدينة: هل تأتيكم حالات لا تكون فيها أخطاء طبية كثيرة، ويريد أصحابها أن يصعّدوها رغم ذلك؟ د.سعيد باسهيل: مرّت علينا حالات كثيرة بها اندفاع. ولكن ندرك أننا نتعامل مع أشخاص فقدوا بعض أقاربهم، ويتصوّرون أن الطبيب هو الذي أخطأ، وأهمل، وقصَّر. والأخطاء الطبية إمّا أن تكون مقصودة، أو غير ذلك، فإذا كانت الأولى فهناك طريقة للتعامل مع الطبيب، ويتم تجريمه. وإذا كان الخطأ غير مقصود، يمكن أن تضم القضية إلى بيت مال المسلمين، وتُدفع الدية للمتضرر. أمّا إذا كان من المتطفّلين على المهنة، وليس طبيبًا، وإنما مزوّر تتولّى أمره السلطات المختصة، لكن ينبغي أن يتم التشهير به هو والجهة التي استقدمته، وأدخلته إلى البلد، لأن ما فعله يندرج تحت بند الجنايات. د. عبدالله: كما ذكرنا في البداية فإن مثل هذا الشخص يستحق القتل عقابًا على ما أقدم عليه من جُرم. ولكن الطبيب الذي مارس المهنة، وهو أهل له، فإن حكمه يختلف، فهو يبقى طبيبًا. وحتى إن افترضنا أنه قد يكون نسي شيئًا من الأدوات الطبية في بطن المريض؟ فالنسيان -شرعًا- خارج عن إرادة الإنسان. وهى مسؤولية الطاقم المرافق للطبيب في العملية. د. سمرالسقاف: هناك إحصائية قامت بها منظمة الصحة العالمية، إذ اختارت ثماني دول، كان من بينها عمان، والأردن، والهند، وأمريكا، وكندا، ووفرت العناية والجودة، وقامت بتوفير قائمة الأساسيات، فانخفضت معدلات الوفيات نتيجة الجراحة من 1% إلى 0.8%، كما انخفضت المضاعفات من 11% إلى 7% في تلك المستشفيات. وهذه الإحصاءات منشورة في المجلة العلمية البريطانية الجديدة. 8 أنواع للخطأ الطبي د.سعيد باسهيل: حسب التعريف المتعارف عليه، فإن الخطأ الطبي هو أحد ثمانية أشياء: الخطأ في العلاج، أو نقص المتابعة، والجهل بأمور فنية يُفترض في مَن كان في مثل تخصصه الإلمام بها، وإجراء العمليات الجراحية التجريبية غير المسبوقة على الإنسان، وإجراء التجارب والبحوث العلمية غير المثبتة على المريض، أو إعطاء دواء لمريض على وجه التجربة، أو استعمال آلات أو أجهزة طبية دون علم كافٍ بطريقة استخدامها، أو دون أخذ الاحتياطات الكفيلة بمنع حدوث ضرر، والتقصير في المتابعة والإشراف، وعدم استشارة مَن تستدعي حالة المريض استشارته. أمّا إذا كان هناك طبيب يعاني من حالة معيّنة تستدعي استشارة الآخرين، ولم يتم ذلك فهذا تقصير. ¶ المدينة: ما هي أكثر الأخطاء الطبية التي ترد إليكم في اللجنة الشرعية؟ د.انتصار: كما ذكر الشيخ لا يوجد طبيب يتعمّد أن يخطئ، ولكن الذي يحدث هو الاعتماد على الآخرين. الاستشاري يعتمد على الأخصائي الذي يليه، وهذا قد يكون أقل خبرة. وأكثر المشكلات التي تواجهنا في قضية النساء والولادة أن المريضة يتم تنويمها على جهاز مقياس نبض الجنين لمعرفة ما إذا كان بحالة طيبة. وقد يحدث إخفاق، أو تردٍّ في نبض الجنين، ولا بد أن يكون مراقب الجهاز متمرسًا حتّى يستطيع قراءة نتيجة التخطيط بصورة صحيحة. فالخطأ هنا يكون في قراءة الجهاز. الطبيب المعالج لم يتعمّد الخطأ، ولكنه تصوّر أن قراءة الجهاز طبيعية. ومعظم الحالات تكون هكذا. أكثر الأشياء هي الإهمال. من واقع تجربتي في اللجنة الشرعية التي امتدت لسنوات لم أجد طبيبًا تعمّد الخطأ. أي طبيب يحاول أن تنجح جميع العمليات التي يجريها حتّى تكون سمعته طيبة. التعويض والدّية ¶ المدينة: ماذا عن قضية التعويض والدّية التي حددتها الشريعة بمائة ناقة، كانت قيمة الواحدة في السابق ألف ريال، والآن ارتفعت القيمة إلى عدة آلاف؟ د. عبدالله: القتل في الإسلام نوعان؛ خطأ، ومتعمّد. القتل المتعمّد له ثلاث حالات تنتظر مرتكبه، القصاص، أو الدّية، أو العفو. أمّا القتل الخطأ فنوعان: خطأ متعمّد، فعليه الدّية والكفّارة، وأما الخطأ غير المتعمّد فليس عليه دية، ولا كفّارة. والدّية المحددة في الشريعة هي مائة ناقة. وبعض الناس يتنازلون عن حقهم في القصاص، ومع ذلك يطالبون بدية مغلّظة في حالات القتل العمد، وقد تصل الدّية إلى عدة ملايين من الريالات. والبعض يقول ما دام القتل قد وقع بطريق الخطأ، فما هي الحكمة من تشريع الدّية فيه؟ والإجابة عن ذلك معروفة، وهي أنه لو لم تكن هناك الدّية لاستخف الناس بأرواح بعضهم البعض، لكن هذه الدّية تكون زاجرًا لهم، وباعثًا على اتّخاذ الحيطة والحذر. والدّية حددتها الشريعة بمائة ناقة، وحددتها الأنظمة بمائة ألف ريال للرجل، وخمسين ألفًا للمرأة. ¶ المدينة: إذن لماذا بقيت الدّية على حالها، ولم تزد على مئة ألف ريال، مع أن سعر الناقة قد زاد؟ د. عبدالله الجفن: قيمة الناقة تزيد وتنقص، ولكن حتّى يكون مبلغ الدّية معلومًا للجميع، يتم تثبيته، ولا بأس من زيادته أو إنقاصه بين فترة وأخرى حسبما يراه الحاكم. ولو أراد الشخص طلب المئة ناقة نفسها، وله أن يتصرّف بها، فهو مخيّر بين أن يأخذ قيمتها بما حددت، أو يأخذها نفسها. لماذا دية المرأة نصف دية الرجل، مع أنهما متساويان في قيمة الروح البشرية؟ الجفن: يأتي ذلك لأننا دائمًا نكرم المرأة، ونجعلها مثل الدرّة المكنونة التي يخبئها الإنسان، ولا يسمح لسواه بالاطّلاع عليها. أمّا الرجل يختلف في طبيعته عن المرأة، وعليه واجبات ليست عليها، فهو مطالب بالمهر والإنفاق. لذلك لو كانت المرأة ثريةً لا يجوز لها أن تعطي زوجها من زكاة أموالها، وكذلك لا يجوز له أن يعطيها من زكاته لو كان ثريًا؛ لأنه مطالب بالإنفاق عليها. وإذا مات رجل فإن أبناءه يفقدون مَن يعولهم -بعد الله سبحانه وتعالى- ولذا وجب تعويضهم بصورة مجزية. ¶ المدينة: نشرت الصحف من سنوات قصة شهيرة لفتاة تعرّضت لخطأ طبي نتج عنه فقدانها للمبيضين بالكامل؛ ممّا أعاقها على الإنجاب والزواج، وحُكم لها بعد انتهاء القضية بخمسين ألف ريال، كانت في نظر الرأى العام غير مجزية لما تحقق لها من ضرر بليغ؟ د.انتصار الطيلوني: هذه القضية كانت بها ملابسات. لم يعرفها الإعلام، ولم تُنشر، وهي أنه سبق أن فتحت بطن هذه المريضة ست مرات نتيجة التصاقات وغيرها. في المرة الأخيرة فُتحت بطنها بصورة عاجلة حوالى الساعة الثانية عشرة ليلاً، وبينما كان الطبيب الجراح يباشر الحالة أحس بوجود ورم في المبيض الأيمن. اتّصل الطبيب على أخصائي النساء والولادة، وأخبره بالحالة، وطلب منه الحضور. جاء الطبيب وهو لا يعلم شيئًا عن تفاصيل الحالة. وفي أثناء العملية كان طبيب النساء يسأل بقية أفراد الطاقم الطبي عن الحالة، فأخبروه بالتفاصيل، وأنه كان يوجد كيس في المبيض الأيسر مع التصاقات البطن من الصعب على الطبيب -هذا معروف طبيًّا- أن يرى جيدًا. ذلك الدكتور كان أخصائي نساء وولادة وأورام سرطانية، فشك في وجود أورام غير حميدة، والبطن مفتوحة. فقام باستئصال المبيض. وفُسّر على أنه خطأ، ورغم ذلك عوّضتها اللجنة بعد صدور الحكم بخمسين ألف ريال. د. عبدالله: لابد أن نرضى بالقضاء والقدر، وما قسمه لنا الله. فالمريض عندما يدخل المستشفى، ويوقّع أهله على ورقة العملية، أليس هذا تعهدًا بأن يرضوا بما يقسمه الله لهذا الشخص، وما يقدره له؟ لابد أن نعلم أنه حتّى وإن لم يحدث خطأ، ومكتوب للشخص أن يموت فسيموت، فعندما يكون في غرفة العمليات ليس بين أيدي الأطباء، وإنما هو بين يدي الله سبحانه وتعالى، ويجب إدراك ذلك. التأمين على المرضى ¶ المدينة: لو رغبنا في طرح اقتراح كما هو معمول به في الخارج، وهو إلزام المستشفيات بالتأمين على المرضى لتعويضهم في حالة الضرر أو ذويهم؟ د. عبدالله: أنا أشرع هذا العمل وأجيزه، بشرط أن يكون بنظام التكافل الاجتماعي، وبدون مرابحة أو استرجاع للمال المؤمن، وأتحدّث هنا على سبيل المثال عن حوادث السيارات التى تلحق ضررًا بكثير من الناس ماديًّا، وقد لا يستطيع الفرد تسديد تكاليف تلك الحوادث، وتدمر حياته، وبالتالي فالتأمين في هذا السياق ضمن التكافل الاجتماعي يكون مردوده الخير والاستقرار. ---------------- لقراءة الجزء الأول: http://www.al-madina.com/node/225250