لا زلتُ أتذكّر عبارة ديل كارنيجي في كتابه الشهير (دع القلق وابدأ الحياة) وفيها يقول: لا تدع الخوف يفكر لك، أو يشير عليك، واعتقد أن خوف أمانة جدة على سلامة المواطنين، قد شابه من المبالغة، خصوصًا حين ننظر إلى إيقاف البناء في أكثر من سبعين مخططًا، بعضها مأهول بالسكان منذ زمن بعيد، أو التفكير بهدم فلل الخير المتميزة، وزلزلة استقرار سكانها المستقرين فيها منذ عدة سنوات. وجدة لا تعرف السيول، ولا يتذكّر المعمرون سيلاً مشابهًا لسيل الأربعاء الجارف منذ أكثر من ثمانين سنة، ولم يذكر عبدالقدوس الأنصاري في موسوعة تاريخ جدة، أي خبر عن السيول -لندرتها على ما يبدو- بما يعني أن ما حدث بجدة كان كارثة طبيعية نادرة، مثلها مثل سونامي شرق آسيا، وزلزال هايتي مع الفرق الكبير والحمد لله. ولا يستطيع أحد التنبؤ بالكوارث الطبيعية، ومواقعها، وأوقات حدوثها. وقد يأتي سيل ويسلك طريقًا مختلفًا عمّا توقعناه لأن عمارة الانسان للأرض غيرت طبيعتها وجغرافيتها. ولا يمكن أن نصدر قوانين سريعة بوقف البناء في المخططات الجديدة أو هدم مبانٍ تعيش فيها أسر بناء على كارثة طبيعية نادرة، ولو طبّق هذا القانون في العالم لمنع البناء على الشواطئ التي تعرضت للسونامي، ولهجرت المدن التي دمّرتها الزلازل، ولكننا نرى ما يحدث هو العكس. فقد اعادوا بناء هذه المدن الساحلية الجميلة كما كانت، وعاد السكان يبنون بيوتهم بعد الزلزال. إن الانسان يتعايش مع الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وسيول وفيضانات حسب ظهورها، ولا يمكن وضع طرق مؤكدة للحماية منها، وإذا شئنا حماية الأرواح في بلدنا فلنمنع صغار الشباب من قيادة السيارات التي تسبب كل سنة مئات القتلى، وآلاف المعوقين. إنني -في رأيي الشخصي، وقد أكون مخطئًا- لا أستصوب الإجراءات التي اتّخذتها الأمانة بإيقاف البناء في المخططات التي يعتقد انها مجاري سيول، أو التفكير بهدم الفلل المتميّزة بمخطط أم الخير، وسأقتنع بصواب هذه الإجراءات لو أثبت لي أحد أن سيلاً جارفًا مرّ بهذه الوديان خلال المئة سنة الماضية، وليست لي أية مصلحة شخصية في هذا الكلام، ولكنه اهتمام بالمصلحة العامة، وأرجو أن لا يشملني القول: (مَن تدخّل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه)، ورغم ذلك أتجرّأ وأقول: إننا نعيش طفرة سكانية عظيمة، يرافقها طلب كبير على المساكن والبيوت، وارتفاع فاحش في أسعار الأراضي، وهذه الإجراءات البلدية الأخيرة ستضاعف أزمة السكن أضعافًا مضاعفة، وستصيب الكثير من المواطنين بمصائب عظيمة، ومع ذلك فلن تحمي الأرواح من أخطار السيول. إن العمائر والبيوت الحديثة لا تبنى بالتبن واللبن الذي يذوب في الماء، كما يذوب الزبد بالحرارة، ولكنها تُبنى بالأسمنت المسلّح الذي يقاوم الأمطار والسيول؛ ولهذا فلا خطر البتة إن وقفت العمائر المسلّحة في قمم الجبال، أو نهضت في سفوح الوديان. ولا ينبغي أن نعالج آثارًا محدودة لكارثة نادرة بإجراءات لها آثار تفوق أخطار السيول، وتمس جمهورًا عريضًا من الناس في ظروف أصبح فيها توفير السكن من الأمور الصعبة المقلقة. وفي اعتقادي أن الحل المعقول هو أن ينص نظام البناء في هذه المخططات على أن يكون الدور الارضي مواقف للسيارات، وأن تكون المحلات التجارية من ميزانين؛ لأن أي سيل مهما عظم لن يصل إلى الدور الأول. والحمد لله أن هذا هو نظام البناء المعمول به حاليًّا في مدينة جدة؛ ولهذا أتمنّى أن نفكر ألف مرة قبل أن نتصرّف تصرفًا يمكن أن نندم عليه حين لا ينفع الندم.