“الأرجح أن من يرى المال على أنه كل شيء سيفعل أي شيء من أجل تحصيل المال”. هذه العبارة التي قالها (بنجامين فرانكلين) أحد الآباء المؤسسين لأمريكا تلخص العلاقة بين المال والسياسة في هذا العصر. عاشت بريطانيا أياماً من الجدل خلال الأسبوع الماضي. فقد تبين أن عدداً كبيراً من نواب البرلمان البريطاني (أساؤوا) استخدام مخصصاتهم المالية. يأتي اللجوء إلى تلك الكلمة طبعاً لتجنّب استعمال الكلمة الحقيقية، وهي أنهم (سرقوا) من مال الشعب. وماحصل هو أن أولئك النواب صرّحوا بشكلٍ مبالغ فيه، وأحياناً بدرجةٍ مهولة، عن مصاريف مختلفة تتعلق بخدمات قُدّمت لهم أو أغراضٍ احتاجوا شراءها. المضحك المبكي أن رئيس الوزراء الحالي غوردون براون والسابق توني بلير ورئيس حزب المحافظين المعارض ديفيد كاميرون والناطق باسم مجلس العموم وغيرهم من كبار النواب كانوا من ضمن هؤلاء.. وهذا يذكرنا بالمثل العربي «إذا كان ربُّ البيت بالطبل ضاربا..». لكن الأغرب أن الإعلام البريطاني طرح (احتمال) قيام الشرطة بتحقيق قضائي في الموضوع، ثم مالبث الحديث فيه أن اختفى خلال بضعة أيام. والأغلب أن الأمر سيتوقف عند إلزام النواب المحترمين بإعادة المبالغ التي أخذوها سهواً عن غير قصد.. إذا كان هذا هو الوضع في مهد الديمقراطية المعاصرة، بل وفي أمّ البرلمانات، فلا عجب أن يتساءل المرء عن أزمة العلاقة (المشبوهة) على الدوام بين المال والسياسة. وهي أزمةٌ لاتكاد تختفي في مكانٍ حتى تظهر في مكانٍ آخر من هذا العالم. فاليونان على سبيل المثال تشهد أزمةً داخلية تتصاعد باستمرار هذه الأيام. خلال العام الماضي، قدم رئيس الوزراء الحالي جورج باباندريو وحزبه وعوداً كثيرة للشعب اليوناني خلال الحملة الانتخابية قبل وصول الحزب الاشتراكي إلى السلطة في أكتوبر الماضي عام 2009م. وبعد أن وجد الرجل نفسه في مقعد الحكم فقط، عرف أن العجز الاقتصادي لبلاده هو في الحقيقة ضعفُ ماأعلنته الحكومة السابقة!.. ويبدو أن الأرقام التي رأتها الحكومة الجديدة كانت مخيفة إلى درجةٍ اضطرت معها إلى الاعتذار عن إمكانية الوفاء بكل تلك الوعود. فلم يكن من الجماهير طبعاً إلا أن بدأت في الإضرابات والنزول إلى الشوارع. لكن مشكلة اليونان مع المال والسياسة ليست داخليةً فقط. ذلك أن الاتحاد الأوروبي يشنّ عليها مؤخراً حملةً شعواء بسبب أزمتها الاقتصادية التي تؤثر سلباً على عملة اليورو. إذ اكتشف الأوروبيون أن بعض الساسة اليونانيين أوحوا منذ سنوات إلى البيروقراطيين في الجهات المختصة ب (فبركة) الأرقام الاقتصادية لبلادهم، بحيث تبدو أفضل مما هي عليه في الحقيقة، وتكون منسجمةً مع المقاييس التي وضعها الاتحاد الأوربي ليصبح أي بلد في أوروبا عضواً من أعضائه!.. والظاهر حتى الآن من التقارير الإعلامية والسياسية أن هذا هو ماحصل حقاً. وأن إحدى الدول المؤسسة لذلك الاتحاد صار عضواً فيه.. بالتزوير. الأمثلة الأخرى كثيرةٌ إلى حدّ أن الأمر باتَ وكأنه القاعدة وليس الشذوذ. ففي إيطاليا تنوء حكومة رئيس الوزراء بيرلسكوني تحت ثقل شبهات ودعاوى قضائية لها أولٌ وليس لها آخر. وأغربُها التحقيق الأخير الذي تداولته بعض الصحف الإيطالية بأن حادثة الاعتداء التي تعرّض لها الرجل منذ أسابيع هي في الحقيقة مسرحيةٌ مُدبّرة، الهدف منها رفعُ شعبيته التي انخفضت بسبب تلك الشبهات والدعاوى القضائية على وجه التحديد. لاعجب أن ديغول قال ذات مرة:»لقد بدأت أوقن بأن السياسة جدّيةٌ إلى درجة أنه لم يعد بالإمكان تركها للسياسيين».. مايدعو إلى التفكير بالمسألة بجديةٍ أكبر هو أن كل هذه الأحداث تجري في أوروبا التي كانت إلى دائماً أقل عرضةً لهذه الفضائح من أمريكا. فطبيعة النظام السياسي في الولاياتالمتحدة جعل البلاد تسقط تحت تأثيرات المال السلبية منذ عقود طويلة لأسباب عديدة، من أهمها الدور الاستثنائي للمال في الحملات الانتخابية الطويلة، والتي صارت مكلفةً بشكلٍ جنوني في السنوات الأخيرة. لهذا، قد لاتكون غريبةُ تلك المقولات التي خلّدَ السياسةَ بها الرئيسُ الأمريكي السابق رونالد ريغان حين قال مرة:»السياسة ليست مهنةً سيئة. إذا نجحتَ فهناك جوائز كثيرة، أما إذا فضحت نفسك فيمكنك دائماً أن تكتب كتاباً». وقال مرةً أخرى:»يُفترض بالسياسة أن تكون ثاني أقدم مهنة في التاريخ، ولكنني بدأت أدرك أنها تُشابهُ إلى حدٍ كبير أقدمَ مهنة»!.. من هنا، استهزأ الكثيرون بإعلان المرشح باراك أوباما، قبل أن يصبح رئيساً، مع بداية الحملة الانتخابية أنه لن يأخذ تبرعات من جماعات المصالح الخاصة أو (اللوبيات) أياً كان نوعها، وأنه سيعتمد فقط على التمويل المباشر بمبالغ صغيرة من عامة الناس. ورغم أن هذا حصل فعلاً. ورغم أن أوباما نجح في أن يخلق حملةً انتخابية شعبيةً ليس لها مثيل، وأن ينجح بواسطة دعمها المباشر، وأن يطرح من خلالها نموذجاً غير مسبوق. ورغم أنه صرّح برغبته في معالجة مسألة تمويل الانتخابات المعقّدة. إلا أن التعامل مع هذه القضية سيكون تحدياً كبيراً آخر على لائحة التحديات التي يواجهها وسيواجهها الرجل خلال السنوات القادمة. خلاصة القول أن علاقة المال بالسياسة باتت علاقةً مَرَضيّةً أشبه بالسرطان الذي يستشري في المجتمعات من مشرق الأرض إلى مغربها. وبما أن وجود المال ووجود السياسة في واقع البشر باتَ من الحقائق التي لايمكن إلغاؤها، فقد يكون من المستحيل الحصول على إجاباتٍ للأسئلة الكبرى التي تطرحها العلاقة بينهما في فضائهما المشترك.. ويصبح المطلوب البحثُ عن تلك الإجابات في فضاءٍ آخر. المشكلة أن السياسة وأهلها خلقوا قناعةً بين الناس باتت من المسلّمات، وتؤكدُ بأن فضاء الأخلاق والمثل والمبادىء والقيم لاعلاقة له بهذا الموضوع من قريبٍ أو بعيد. كانت هذه (ضربة معلم) كما يقولون، لكنها أدخلت البشرية في نفقٍ مظلم تتكاثر في الأسئلة وتندر الإجابات. المفارقةُ أن الواقع العربي والإسلامي يشهد وسيشهد تحدياً متزايداً يتعلق بمعادلة المال والسياسة. لكن المفارقة الأخرى هي أن هذا الواقع نفسه قد يكون الفضاء الذي يوجد فيه كمونٌ كبيرٌ للحصول على تلك الإجابات. * كاتب عربي