استَحدَثَت الدَّولة –وفّقها الله لكُلِّ خير، قبل سَنوات قليلة- حِساب «إبرَاء الذِّمَّة»، في فِكرة رَائدة، شَديدة الفَائدة، بحيثُ تَضمن -لِمَن سَبق وأن اختلس شيئاً، أو سَرَقَهُ مِن المَال العَام- تَضمن له فُرصة ردّه في سريّة تامَّة تَعفيه مِن المُساءلة.. ولكن -وما بعد لكن مُرّ أحياناً- لم يَبلغ هذا قَدر الطّموحات التي عُلِّقت عليه.. ففي آخر تَصريح لأحد مَنسوبي هذا الحساب، أفاد بأنَّ المبلغ المودع -حتَّى الآن- لا يَتجاوز ثَلاثمائة مليون ريال!.. إنَّه مبلغ ضئيل، بل تافه مُقابل ما سُرِق، لأنَّ مَا سُرِق «بالمليارات»، بمعنى أنَّه لم يَرجع مِن الجَمَل المَسروق إلَّا ذيله النَّحيل! ونظراً لأنَّنا نعيش في عصر المُحاسبة والمُراجعة، و «تقصِّي الحَقائق»، فإنَّني سأبدأ بالاعتراف أنا وحيواناتي.. ولكن كَما يَعلم الجميع، فإنَّ الحيوان «لا يَسرق»، بل أكثر مِن ذلك، فإنَّني لا أُبالغ إذا قلت: إن الحيوان يُفرِّق بين الأكل «الحلال» والأكل «الحرام».. وجرّب -أيها القارئ- أن تُشاهد «القط» عندما تُعطيه قطعة مِن «اللحم»، فسيأكلها أمامك، ولكنَّه إذا خَطفها مِن «المَطبخ»، سيَأكلها بَعيداً عنك، وما هذا إلَّا لأنَّه شَعر ب «جُرمهِ»! حسناً، لم يَبق إلَّا أن أعترف بما سَرَقت، ولن أكون خَجولاً مِنها، لأنَّ حسابها في الدُّنيا ورَدَّها، أهون ألف مَرَّة مِن حسابها «يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ»، لقد سَرقتُ في حياتي ثَلاث مَرَّات، وها أنا أعترف بها! أولاً: كنتُ أسرق مِن والدتي -شَرح الله صَدرها، وألبسها ثوب العَافية- وكان ذلك عندما كُنَّا في حارة «الأحامدة» في المدينة المُنيرة، ومَع الأسف كنتُ استغل وقت انشغالها في الصَّلاة، فأعمد إلى دُرجها –حيثُ تُخبئ مَصروفنا- وآخذ مِنه كُلّ يوم نصف ريال، وقد دَرجتُ على هذا الوَضع سنين، حتَّى انكشف أمري، وضُربت ضَرب غرائب الإبل، ولكني مَع هذا لم أردّ المبلغ، ويَظل في عُنقي لأمي -رعاها الله- ثم لإخواني وأخواتي -وفقهم الله-! المرَّة الثانية مِن سَرقاتي، تَمَّت عندما كنتُ في حدود الصَّف السَّادس، حيثُ كُنَّا نَقطن في حارة «المصانع»، التي سُمّيت بَعد ذلك «ظُلماً وعدواناً» حي «البيعة»، في المدينة المُنيرة، وفي هذا الحي، كَان هناك رَجُل كبير السّن يَبيع في «بقالته».. وكُلَّما أرسلني أهلي لشراء شيء مِنه، هو يَنشغل بإحضار ما أُريد، وأنا أَدسُّ يَدي -في غَفلةٍ مِنه- و «أخمش» -كما هي عبارة النّجديين-، و «أهبش» -كما هي عبارة الحجازيين-، ثم أخمش وأهبش، وألمّ وأضع في جيبي، ما لذ وطاب من «الحلوى» و «الكراميلة»، وبالذات حلوى «بقرة».. وقد استمررتُ في هذه السَّرقة حتَّى تَرَكْنَا الحي، إلى حيثُ أراد الله لنا! أمَّا السَّرقة الثَّالثة فكانت عجيبة، حيثُ كنتُ أَسكن في جُدَّة –بضم الجيم- وأدرس في الصَّف الثَّاني في مَعهد جُدَّة العلمي، وكان النَّقل الجماعي -في ذلك الوقت- في عز مجده للنَّقل دَاخل المُدن -مِثل خَط البلدة الآن-، وكان الرّكوب في البَاص لا يَتطلب أكثر مِن ريالٍ وَاحد، يلفه «الرَّاكب»، ثُمَّ يَضعه في صَندوق قَائم عَلى يمين السَّائق.. فمَا كَان مِنِّي إلَّا أن أقوم بقَطع الرّيال إلى نصفين، لأستخدمه بَدل اليوم ليومين، واستمرَّت هذه الحالة سَنَة كَاملة، ولم أتوقَّف عَنها إلَّا حين قرأتُ تَصريحاً، لأحد منسوبي النَّقل الجماعي، يُحذِّر فيه مِن هذه الظَّاهرة، وأنَّ هناك مُتابعة دَقيقة لمَن يَقوم بهذا التَّصرُّف «المُحرَّم»! الحقيقة أنَّني لازلتُ أتألَّم مِن هكذا تَصرُّف، لأنَّه لا يَليق بالوَطن ولا بي، ولكنَّه «الجَهل» و «قلّة المصروف» و «طَلَب العِلم»، الذي يُلزمني بالذِّهاب يوميًّا مِن كيلو سبعة في طريق مكَّة، إلى كيلو ثلاثة حيثُ مَقر المعهد!!! حسناً.. ماذا بقي..؟! بقي القول هذه «سَرقات المُراهَقَة» أعترف بها، وكُلّها كَما تُشاهدون يُمكن تَعويضها وردّها لأصحابها، وأنا على أتمّ الاستعداد لفعل ذلك.. ها أنا أعترف، ولكن يا تُرى كَم وَاحد مِثلي يَستطيع أن يَعترف؟!.. وتأكَّدوا أنَّني -هنا- أستجيب لتَعليمات الدّولة، ثم أقتدي بكِتَاب «اعترافات» للمُفكِّر «جان جاك روسو»!حسناً.. هذه اعترافاتي حول سرقات المَال «العَام» و «الخَاص»، ولكن سَرقاتي الثَّقافيّة -في بداية انطلاقتي الكِتَابيّة- «النَّثريّة» مِنها و «الشِّعريّة»، سيكون لها مقال آخر، لأنَّها قضيّة -بالنّسبة لي- «مصيريّة»!.