يعكر صفو المجتمع ظاهرة تعد من أخطر الظواهر وهي ظاهرة الأطفال مجهولي الأبوين (اللقطاء) الذين تركوهم أمهاتهم وآباؤهم بلا ذنب اقترفوه، يواجهون المستقبل المجهول يجهلون من هم ومن تركهم والى أين سيقودهم المصير، بعد أن احتضنتهم دور الرعاية الاجتماعية. وتعد ظاهرة اللقطاء في المملكة موضوعا حساسا لأنه نتاج أخطاء مرفوضة في مجتمع المحافظ ومرجعه على الشريعة الإسلامية، وبالرغم من الإنفاق المالي الذي تبذله الحكومة على دور اللقطاء وتوفير كافة السبل لتحسين أوضاعهم المعيشية، إلا أن التعتيم الإعلامي الكامل على هذه القضية أدى لوجود عدد من القضايا الاجتماعية التي تؤثر على الحياة اليومية لهؤلاء اللقطاء سواء في طفولتهم أو حتى في شبابهم. وتشير إحصاءات الرسمية الحديثة لوزارة الشؤون الاجتماعية السعودية إلى أن عدد اللقطاء أو (ذوي الظروف الخاصة) كما تطلق عليهم الوزارة الذين تؤويهم دار الملاحظة الاجتماعية عام 2005 يصل أعدادهم إلى أكثر من 621 طفلا من بينهم 336 ذكورا و285 إناثا، ويقل عمر هؤلاء جميعا عن 6 أعوام ويزيد عن عام، وخلال عام 2004 وحده تم إيداع 197 طفلا في تلك الدار، أما الأطفال الذين تقل أعمارهم عن السنة فيبلغ عددهم 128 طفلا. وبلغ عدد اللقطاء الذين تتراوح أعمارهم مابين 6-18 سنة وتؤويهم دور ومؤسسات التربية التابعة للوزارة أكثر من 1045 شابا وفتاة بينهم 772 ذكرا وبقيتهم من الإناث، وتنص اللوائح على أن يقيم الطفل الذي يقل عمره عن 6 أعوام في دار الملاحظة وينتقل بعد ذلك إلى مؤسسة التربية الاجتماعية، وقد بلغ عدد الحالات التي وصلت هذا العام إلى مؤسسة التربية 66 حالة. وأشارت الإحصاءات الرسمية إلى أن الفتيات اللقيطات يمثلن أعلى نسبة داخل دور التربية الاجتماعية الخاصة بالإناث إذ سجلن أكثر من 273 حالة، لافتة إلى وجود أكثر من 42 فتاة تجاوزن 21 عاما لم يتزوجن بعد، وقد تم تزويج ثلاث فتيات فقط العام الماضي. من يتأمل نظرات الطفلة "رحمة" وهي تحمل البراءة والحزن وتنثر دموعًا لا انقطاع لها يدرك المعاناة التي تعيشها فهل ستقضي باقي عمرها بعيدة عن كنف والديها وهل ستعاتب أبويها عندما تركاها !؟. أم هل ستقول: لا أعلم عنهما شيئًا .. أو ستذرف الدموع حرقة وتهرب عندما تسأل عنهما. نعم هذه حال الطفلة "رحمة" التي لم يتجاوز عمرها العامين وتقطن في دار فتاة طيبة بالمدينة المنورة والتي لا زالت تنتظر سؤال أبويها عنها منذ سنة تقريبا فيما لا تملك غير البكاء في حين يخشى عليها من ذلك ومن كثرة ترديد كلمتي "بابا ..ماما " ورفضها لشرب الحليب وكأن لسان حالها يقول "هذا ليس بالحليب الذي شربته من ثدي أمي والذي تعوّدت على شربه عاما ونصف العام". (رحمة) عثر عليها بتاريخ 2/11/1429ه بداخل مصلى النساء في مسجد اللهيبي بالدائري الثالث، كان عمرها آنذاك سنة ونصف تقريبا حالها حال من يقطنون معها في الدار من الأطفال مجهولي الأبوين. الأطفال الضحايا وقال المشرف على دار الفتاة بالمدينة المنورة المهندس يحيي إن الكثير من الأسر في جميع المجتمعات تواجه ظروفا قاسية، ولكنها ليست مبررا لكي تدفعهم ليعيشوا بعيدا عن أطفالهم أو أن يكون مستقبل أطفالهم ثمنًا لخلاف عائلي أو انتقام شخصي، وتضيف لقد أطلقنا على الطفلة اسم رحمة لعله يذكّر والديها بالرحمة والحنان اللذين تحتاجهما هذه الطفلة. عناية صحية وأكدت الدكتورة فاطمة داؤود رئيسة قسم الولادة بمستشفى النساء والولادة بالمدينة ان هؤلاء الأطفال يلقون رعاية صحية كاملة من قبل المستشفى، حيث يعمل لهم فورا وبعد استلامهم من الجهات الأمنية فحص طبي كامل، بالإضافة الى عناية صحية ولمدة تتراوح بين أسبوع إلى ثلاثة أسابيع حتى يتم التأكد من خلوها من أي مرض، ومن ثم يتم تسليمه الى دور الرعاية الاجتماعية كونها المسؤولة عن هؤلاء الأطفال. الناحية الأمنية ومن جانبه أوضح الباحث والأكاديمي الأمني العقيد دكتور نايف المرواني أن الأطفال مجهولي الأبوين أو يمكن أن نسميهم تجاوزاً (المعذبون في الأرض)، هم إفراز لظاهرة اجتماعية أمنية خطيرة تلقي بظلالها المؤرقة عليهم مدة بقائهم في الحياة، ويفتقرون إلى التربية الأسرية السليمة، وما يرتبط بها من إشباع عاطفي يسهم في تشكيل شخصياتهم وبنائهم النفسي. ويقول المرواني إن وجودهم يشكل عبئا على المؤسسات الأمنية والمدنية في المجتمع من حيث التعرف على الوالدين أو أحدهما وما يتطلبه من اتخاذ سلسلة من الإجراءات على حساب جوانب أكثر أهمية، ومن حيث الإمكانات التي تسخر لرعايتهم في دور الرعاية ودور الأيتام، وما يرتبط من توفير بيئة بديلة تقترب الى حد كبير من البيئة التي يعيش فيها الأسوياء. ويضيف أن معظم مجهولي الأبوين خاصة الذكور ووفقا لما أكدته الدراسات النفسية والأمنية فهم أشخاص لديهم نزعة عدوانية نحو ذاتهم والآخرين، ولديهم شعور بأنهم أشخاص غير مرغوب فيهم وتسيطر عليهم مشاعر الانطواء والانعزال وغياب الدعم والأمن بسبب اختفاء الصورة لوالديه المطمئنة له، وهذا من شأنه أن يفقدهم معنى التوازن الحقيقي في الحياة لغياب النموذج الوالدي كون الوالدين يمثلان سلطة تنمي وتوجه الضمير الأخلاقي للأبناء، ويحققان قدرا مناسبا من تحقيق الذات لدى الأبناء. وأكد العقيد المرواني أن جريمة "التخلي" عن الأطفال من حيث الفعل تعد جريمة مركبة، وبها إتيان الفعل المحرم شرعا وجريمة التخلص من المولود إما بإزهاق روحه أو وضعه في مكان عام والذي غالبا ما يكون جوار المساجد وربما يفارق الحياة قبل العثور عليه، ويرتبط سبب التخلص من هؤلاء الأطفال بالقيم الاجتماعية ذات الصلة بالشرف والعرض، وما يسمى بالعار والإدراك المطلق للأم بأن ما أقدمت عليه يعد من أبشع الجرائم ولن يكون أمامها إلا التخلص من المولود. ويظل هذا النوع من الإجرام هاجساً مؤرقاً للأم ويولد لديها عقدة الشعور بالذنب ويترتب عليه حالة من القلق المستمر تعيشها منذ الحمل وتفكر عن كيفية التخلص من الجنين قبل وبعد الولادة خشية ان يكشف أمرها امتدادا إلى رغبتها في معرفة مصير المولود عما إذا كان حياً أو ميتاً.