كان الأسبوع الماضي عصيبا على (إسرائيل)، بدأ بنجاح كسر حصار قطاع غزة بقافلة شريان الحياة الثالثة، ثم زيارة الوفد البرلماني الأوربي الكبير، وهو نجاح ينتظر تبنيا عربيا شعبيا في قوافل قادمة أو من ممثلي الشعوب في زيارات آتية. ثم كانت أزمتها الدبلوماسية مع الحليف التركي القديم، وتلقت خلالها صفعة طال رنينها أذني وزير حربها أثناء زيارته أنقرة عندما رفض رئيسا الجمهورية والوزراء استقباله. جولة خالد مشعل الخليجية يبدو أنها أيضا أتت ببعض الثمار، فقد طلب وزراء عرب من أمريكا ضمانات قبل العودة للمفاوضات، وهو شيء لم يحدث من قبل. ثم كان إعلان عودة ميتشل للمنطقة برغم تهديده السابق بتجميد برنامج الضمانات الأمريكية (لإسرائيل) مما أغضب الأخيرة، وهي عودة تعني بطلان تجاوز كيلنتون له قبل بضعة أسابيع عندما تبنت بالكامل وجهة النظر الإسرائيلية، وهو تراجع لم يحدث من قبل. انعقاد المؤتمر العربي الدولي لدعم المقاومة وفي بيروت بالذات وفي مبني الأونيسكو تحديدا، اعتبر حدثا إضافيا عالميا لدعم دور المقاومة ضد (إسرائيل)، والتأكيد على حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، حضرت المقاومة الفلسطينية والعراقية واللبنانية، فسعدت بمصافحة وجوه تقطر عزة وكرامة، سمعنا عتب حارث الضاري على الجفاء العربي للمقاومة العراقية التي أوقفت مشروع الهيمنة الأمريكي، وكان للمقاومة اللبنانية دور كبير هنا، أنصتنا للوم خالد مشعل لعدم تقدير تجربة حماس التفاوضية مع الكيان المحتل والتقاعس عن نصرتها، وهؤلاء هم دروع المنطقة. حلق بنا جورج جالوي ورمزي كلارك (وزير العدل الأمريكي الأسبق، حين كان للعدل مكان في أمريكا) عن تجاربهما المرة مع نظام عربي بال، وهما من ترك طواعية حياة الرفاه التي يستحقها في بلده ليخدم قضية غيره كقضية إنسانية يؤمن بها. تحدث كثيرون آخرون لا يقلون روعة وثباتا على الحق حتى شعرت بحاجتي لفنجال قهوة يجدد نشاطي. في مقهى قريب جلست أدون بعض ملاحظاتي، فتناهى إلى سمعي حديث صحفيين أجانب حضروا لتغطية المؤتمر، كانوا ينتقدون فكرة المقاومة وأن الزمن قد تجاوزها إلى فكرة التفاوض كأسلوب حضاري بديلا للعنف للحصول على الحقوق. تعالت أصواتهم قليلا فنظر أحدهم تجاهي وخاطبني معتذرا إن كانوا قد أزعجوني، فقلت بل كنت أستمع لكم. صمت أربعتهم حتى قال أحدهم نعتذر مرة أخرى إن كان رأينا صادما، أجبته تعتذر عن رأيك وأنت الغربي المؤمن بحرية الرأي؟ ابتسم وقال كنوع من المداراة فما رأيك أنت، ألم يتجاوز الزمن فكرة المقاومة؟ خفت أن أعلق معهم في حديث يؤخر عودتي للقاعة، غير أن هذا للأسف ما حدث. بدأت بالقول أنهم في الغرب لا يتحمسون للاستشهادات التاريخية، مع أنها تغني عن الشرح الطويل، يكفي التذكير بفيتنام وجنوب أفريقيا، ثم سألتهم لو أن هناك مشروعاً عربياً أو إسلامياً للسيطرة على الغرب ترى ما سيكون موقفهم؟ صاح أحدهم ولم الافتراض يا صاح هناك بالفعل مشروع لأسلمة أوربا، أجبته تقصد الفوبيا التي تنشرونها كصحفيين عن الإسلام، حسنا سأصدق أن هناك مشروعا لأسلمتكم، من يقف خلفه؟ أفراد أم دول، وبمَ يفرض عليكم بالسلاح أم من خلال مواطنين منكم دخلوا الإسلام طواعية، هل عجزتم عن تقبل الرأي الآخر يا دعاته؟ قالت واحدة منهم ظلت ساكتة طوال الوقت وماذا تسمي هجماتكم الإرهابية علينا؟ قلت أعذري جهلي، ولكن هل حدثت هجمات سوى في أمريكا وبريطانيا وهما الدولتان اللتان تعلنان الحرب على الجميع بدعوى محاربة الإرهاب، هي حرب ثأرية بين هذه الجماعات ودول رعتها سابقا ثم تخلت عنها لاحقا ولا تعنينا كمسلمين. الإرهاب لا يقدم مشروعا فكريا، المشروع يحتاج، حسب تنظيركم، كسب العقول والقلوب، فكيف للإرهاب أن يكسب هنا، أما مشروعكم «الحضاري» للهيمنة في منطقتنا فلكم أن تسألوا أنفسكم كم عقلا ألغيتم وكم قلبا أدميتم في سبيل تحقيقه، ألستم في هذا سواء مع الإرهابيين، ألا تعتقدون أن تعميمكم الإرهاب على كل مسلم حتى تثبت براءته يخلق لكم مبررا وحجة للتواجد علي أرض غيركم؟ ثم هل كل مقاومة إرهاب، هل للاحتلال مسمى آخر لديكم، جربنا مجتمعين المفاوضات التي تفضلونها كأسلوب حضاري ستين عاما ثم جربه بعض الفلسطينيين منفردين عشرين عاما فلم نخرج ولم يخرجوا إلا بالفتات، الجريمة تسقط في عدلكم بالتقادم فهل تريدوننا أن نفاوض حتى تسقط حقوقنا فتصبح مطالبات خارج إطار التاريخ، كالهنود الحمر مثلا؟ نظر إلي أحدهم مشفقا ثم قال ولكنكم يا عزيزي لا تملكون القوة الكافية، أجبته هنا مربط الفرس، شرعة الغاب هذه لن تستمر إلى الأبد، لم تُدم القوة ظلما وإن ساعدت عليه، ولم يُشرع الضعف حقا مستولى عليه، سبق لحروبكم الصليبية أن أبقت كامل فلسطين أسيرة قرون عدة وما عجزنا عن استردادها، ولن نعجز اليوم ولما تمضِ سوى ستين عاما على احتلالها، التفاوض الذي تدعون إليه لا يكون بدون مقاومة تفرض شروطه. لم يرقهم قولي بالطبع فمضوا يقللون من شأن المؤتمر بدعوى أنه يضم أشتاتا من الناس مختلفي المشارب والعقائد والألسن، نهضت مغادرا وأنا أقول لا تنسوا أن الحرية قضية إنسانية، وأن كل الشعوب الحرة ضد الاحتلال، الذي انتهى من على وجه الأرض ولم يبق إلا في فلسطين بدعم من الغرب المتشدق بأفكار الحرية والديموقراطية، حتى حماس التي فازت بانتخابات حرة عاقبتم من اختارها جماعيا بالحصار والجوع، صاح بي أحدهم وأنا أخطو نحو الباب، أن ليس كل المجتمعين في هذا المقهى أمريكان وأن ليس بينهم إسرائيلي واحد، لوحت له مودعا وقلت.. ربما، ولكن قلي بربك هل هناك فرق؟.