تنكر مركب خشبي برابغ لصداقة صياد ستيني بعد عشرة دامت بينهما ل 53 عاما وألقى برفيق رحلة الرزق وسط الأمواج المتلاطمة دون أن يفصح عن دواعي الغدر والغضب والانتقام. وعلى الرغم من الدهشة التى ارتسمت على وجه الصياد عبيد الله العوفي وهو يرى مركبه القديم الذى رافقه أكثر من نصف قرن يسبح أمام عينيه منفردا غير مبال بصرخاته ونداءاته وتوسله أن يعود به من حيث أتى. إلا أن الصياد لازال حتى اللحظة يرفض أن ينعت أحدٌ مركبه بالخيانه ومازال رغم مشاهد الموت يتذكر له رفقة العمر وصداقة السنوات ورزق الحياة الذى حمله راضيا على متنه الخشبي. رغبة الرزق الحكاية بدأت صباحا برغبة متوقدة فى قلب الصياد كبير العمر أن يمن الله عليه فى رحلته بالرزق الوفير وبدأ كعادته يداعب مركبه الذى أسماه «بالمبشر» بكلمات رقيقة وترانيم مغناة عله يكون الجسر الجالب لكنوز البحر التى لا تنضب. وبعد 8 كيلومترات وتحديدا في منطقة فاصلة بين «الخمس والسرج» غرب رابغ واجهت المركب موجة عاتية انقلب على إثرها قاذفا بالصياد المسن متنكرا لعشرة السنين الطويلة تاركا اياه ليواجه الموت وسط الأمواج المتلاطمة .. حاول العوفى لحظتها الإمساك بمركبه الا ان الموج حال بينه وبين طوق النجاة الوحيد ليبدأ - مرغما - رحلة صراع مع البحر استمرت لثماني ساعات كاملة نحسبه قد ذاق فيها طعم الموت مرات ومرات.. الغريب أن خبرة السنوات الطوال لم تشفع للعوفي في قراءة غضبات الموج التى كثيرا ماتعرض لها كما لم تفلح الرفقة الودودة بينه وبين «المبشر» فى أن يضمن له النجاة والحياة. 8 ساعات صراع الثماني ساعات مع الموج لم يكن صراعا عادلا. فالرجل الستيني لا يملك ساعد السباحة القوي كما أن جسده النحيل أضعف من أن يتحمل لطمات الموج المتسارعة ولكن يبقى الإيمان بالله هو وحده الساعد والجسد والقوة التى يعجز الموج على مواجهتها. نعم بآيات القرآن وحدها واجه الرجل المسن شبح الموت الآتى له بألف صورة ووجه واستطاع أن يقاوم رغم تيبس الأيدى والأقدام .. لحظات عصيبة تمنى فيها العوفي - على حد وصفه - قطرة ماء يروى بها عطشه وقطعة خشب هاربة يتعلق بها الى شاطئ النجاة ولكن ياللأسف كل شيء حوله ينبئ بالنهاية ويسخر من أمل الحياة. الخوف صديقي لم ينكر العوفى أن الخوف كان هو الصديق الوحيد طيلة ساعات الموت الثماني .. فالموج يفتح فاهه وأسماك القرش تسبح بجواره وهوات البحر التى يتراوح عمقها 500 متر أو ما يزيد تناديه أن يتخذها قبرا ولكنه تمكن بخبرة الستين عاما أن يجعل من الخوف العدو صديقا يتحدث بلسان الدعم والمؤازرة ويعينه على الانتصار والوصول الى الشاطئ الآمن. أجر الغريق الأجر الذي وعد به الرحمن الغرقى كان فى منظور العوفي هو الجسر والطوق وقطرة الماء الراوية للعطش. هذا ما أكده «للمدينة» قائلا .. كنت أشعر بتيبس أطرافي واغماءة طويلة تصيبنى فيتأكد له أن الموت لحظتها أقول لنفسى لماذا تخاف وأنت اليوم محمول الى الجنة ؟ لماذا تخاف وانت تعلم ما أعده الله للغرقى من ضحايا البحر الكبير ؟ مشاعر متلاطمة كتلاطم أمواج البحر انتابتني فى هذه الساعات شوقا للأبناء والزوجة وحبا للموت والنهاية. صدقوني هذه هي مشاعري كانت فى خصام حتى ما عدت أدرى هل اسبح بحثا عن حياة أم رغبة فى الوصول الى الموت ؟ الشمس والغروب وأضاف العوفى لقد بدأت رحلتى مع طلوع الشمس وشاهدت وأنا سابح غروبها حتى كدت أفقد عقلى واتساءل هل تحملت أنا الرجل الضعيف كل هذه الساعات ؟ لا تتعجبوا فلقد كنت محمولا على جسر من ارادة ربانية ونجوت بكلمة من الله. هذا هو تقييمى لرحلة الموت والحياة. قد تتساءلون عن صعاب واجهتنى فى رحلة ال 53 عاما من الإبحار واقول عشت مع مركبي «المبشر» كل هذه السنين ورأيت في البحر الكثير والكثير ولكنى لم أشاهد الموت كما رأيته اليوم وأدعو الله الا يتجرع غيرى ما تجرعته من ألم ومرارة. أين المبشر ؟ أنا لست غاضبا من «المبشر» الذى تركنى فى فم الموت وهرب قاطعا مسافة 65 كم ليستقر وحيدا على الشاطئ فربما أكون قد أسأت اليه أو أغضبته فى يوم فحمل الغضب فى صدره ويكفينى أن اقول إن رجال حرس الحدود وقتما أعادوه لى فى ميناء الذيب برابغ بعد نجاتى .. فلم أملك امامه الا أن اقول .. سامحنى ياعزيزى فربما أكون قد اسأت ولنتعاهد معا على رحلة جديدة ورزق جديد .. فما أجملها حقا رفقة المركب والصياد.