مضى الحديث عن امير الشعراء احمد شوقي في مقالين سابقين، وقد كنت وعدت ان اعزز المقالين بثالث ثم تعاقبت احداث فرضت نوعاً معيناً من المقالات، فأرجأنا الحديث عن امير الشعراء. وها نحن نعود الى ما كنا قد بدأنا به ولم ننهه لنقول : رغم تلك اللآلئ التي صاغها شوقي في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك العاطفة الاسلامية الصادقة في تخليد امجاد المسلمين وجراحاتهم الا ان شوقي -رحمه الله- تغلب عليه نزعة غلو مذموم في حق بعض من يحب وبعض ما يهوى. فالخمر أم الخبائث، وحقيق بمن ابتلي بها ان يستتر وليس الحديث عنها بالحديث المحمود والقول المبجل، وشوقي لا يجهل هذا، ومع ذلك يقول: رمضان ولى هاتها يا ساقِ مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ فانظر كيف يصفها بل ويقرن ذلك بذكر شهر رمضان ومثله لا يجهل ما في ذاكرة المسلمين من اجلال لهذا الشهر وقد لا يكون شوقي يقصد ما يدل عليه البيت لزاماً اذ من دأب الشعراء يقولون ما لا يفعلون، لكن ذميم منه ان يقرن حديثه عن الخمر وهي ام الخبائث بحديثه عن انصرام رمضان وهو خير الشهور. وفي منحى آخر، نجد المرض يغالب الزعيم المصري الخالد الذكر مصطفى كامل باشا، وقد كان صديقاً لشوقي، لكن شوقي لم يكن يستطيع ان يماليه تأدباً مع قصر الخديوي، حتى اذا مات مصطفى كامل، وجد شوقي في ذلك طريقاً لبث اشجانه والبوح بما يكنه من اجلال لهذا الزعيم الوطني فقد كان شوقي على يقين ان الحاكمين في قصر الخديوي لن يضيرهم هذا الرثاء ولن يغضبوا لهذا الثناء. فأذن شوقي لعاطفته ان تحكم ابياته فحادت به عن ثقافة الاعتدال ليجهر بقوله في رثاء مصطفى كامل: المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والداني وضمنها أبياتاً خالدة في الحكمة كقوله: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان وأحبُّ من طول الحياة بذلة فقد يريك تقاصر الاقران ليحيد في خاتمتها بقوله: مصر الاسيفة ريفها وصعيدها قبر أبر على عظامك حان أقسمت أنك في التراب طهارة ملك يهاب سؤاله الملكان وقد قال قبلهما: لو كان للذكر الحكيم بقية لم تأتِ بعد رثيت في القرآن ولا ريب ان امير الشعراء كان في غنى عن هذا كله لكن ثقافة الاعتدال تغيب احياناً حتى عن عقول الكبار فيكون خطؤهم اكبر والزلة منهم اشد ونجد انفسنا ان ضممنا هذين الموقفين مع ما سطرناه سابقاً من مواقف امير الشعراء، ادركنا حقاً ان الكمال عزيز، وهي كلمة طالما رددها واكثر من ذكرها الامام الذهبي -رحمه الله- في كتابه سير اعلام النبلاء وهو يدون حياة النبلاء من علماء الامة واعلامها. على أنه من المهم جداً أن ندرك أن هذا ليس تبريراً لان تقع منا الاخطاء وتكون منا الهفوات، ونجترئ على الحرمات بحجة ان الكمال عزيز، انما هي مفردة نقولها اعذاراً لغيرنا ممن غلب خيره وظهر فضله إن وقع منه ما لا يقبل وكان منه ما لا يحمد.