هذا الجهد المبارك الذي بذله شبان وشابات من أبناء جدة، يقابله في جهة أخرى متحفزون لنقد كل شيء ولو كان خيراً محضاً إني سادتي فخور بالانتماء الى هذه المدينة المتسامح اهلها المتعاونون على البر والتقوى، فالمأساة التي تعرض لها بعض سكانها أثبتت ان بها رجالاً ونساء تمتلئ نفوسهم حباً ومودة لاخوانهم، وحباً عميقاً لموطنهم واهله، خرجوا شباباً وشابات رجالاً ونساء الى الاحياء التي تضررت من السيول، منذ اللحظة الاولى للحدث، يحملون أرواحهم على أكفهم، ينقذون من استطاعوا الوصول اليه من هلاك محقق، وحينما هدأت الامطار وتوقف تدفق السيول جمعوا المعونات وأوصلوها الى مستحقيها، وهم يعينونهم على استعادة رباط جأشهم لينعموا بشيء من الطمأنينة بعد الخوف، وملأ هؤلاء المتطوعون الطرقات، تفيض وجوههم بالبشر، يلقون اخوانهم المتضررين بما يرفع معنوياتهم، فاثبتوا للعالم كله أننا في جدة مدنيون حضاريون، وفي ذات الوقت متمسكون بديننا، عاملون بقيمه، وان زعم الخراصون أن الله قد انتقم منا عبر هذه الفاجعة، لما يزعمون وهم كاذبون أننا قد ارتكبنا من المعاصي ما أوجب علينا العقوبة، ومساجدنا بحمد الله عامرة بالمصلين الذاكرين، والمصابون منا في هذه الفاجعة قوم بسطاء، يستيقظون مع الفجر، وينطلقون مع بدايات النهار الى اعمالهم، ولا يعود اكثرهم الى منازلهم إلا اذا جَن الليل وحلك الظلام، يسعون وراء لقمة العيش ومتطلبات الحياة لأسرهم، فلا وقت لديهم يضيعونه، ان ظاهرة العمل التطوعي التي ظهرت جلية واضحة في جدة أيام الفاجعة، ولا يزال المتطوعون من اهلها حتى اللحظة عند كتابة هذا المقال يقومون باعمال جادة مرهقة، لم تقم بها الجهات الرسمية المنوط بها اغاثة الناس اثناء الكوارث والفواجع، هذا الجهد المبارك الذي بذله شبان وشابات من أبناء جدة، يقابله في جهة أخرى متحفزون لنقد كل شيء ولو كان خيراً محضاً، وهم من لم نرَ لهم وجوداً ولم نسمع لهم اعتراضاًً على الاسباب التي أدت الى الفاجعة، غابوا عن مسرح الحدث تماماً، فلما مضت أيام عدة، وصدر أمر الملك الانسان خادم الحرمين الشريفين أعدوا منشورهم، الذي بدأوه بتحذير أهل جدة من مغبة الذنوب والمعاصي، متهمين أياهم بها، ومذكرينهم بالتوبة والانابة، في مظهر مذموم من تزكية النفس واتهام الغير بمعاصٍ لم يشهدوها تقع منهم أو يرونهم يرتكبونها، وهذا ديدن امثالهم في كل النوائب والحوادث الجسام تقع في بلادنا ويضار منها أهلها، أول ما يستحضرون الاتهام وينتقون من نصوص الشرع ما يربط المصيبة بالذنوب، ويتناسون أضعافها التي تتحدث عن الابتلاء والاختبار والامتحان، ويتحدثون عن معاصٍ إن وقعت من أفراد فجل أهل هذه البلاد معافون منها بحمد لله ومنته، وأما ما يرون أنه معصية وهو في أصله مباح فحدث عنه ولا حرج، يتشددون فيجعلون ما غلوا فيه ديناً، فالانتقائية ديدنهم منذ عرفنا نشراتهم، التي لا تأتي دوماً إلا متأخرة، ثم أنهم أوردوا في منشورهم ما اعتبروه مطالب، مما تحدثت عنه صحفنا المحلية وكتابها وأوسعوه بحثاً منذ وقوع الكارثة وحتى صدور نشرتهم بعد أسبوع كامل، من مثل تولية أهل الأمانة والكفاءة، ومن إعادة تخطيط مدينة جدة وفق أعلى المواصفات والمقاييس العالمية للمدن المتطورة، وإيجاد المشاريع الخدمية الخاضعة لأعلى المواصفات والمقاييس، التي تخدم الناس بعيداً عن الغش والإهمال والمحاباة، والعدل في تقديم الخدمات بالنسبة للأحياء بالتساوي حتى لا يهمل حي واحد منها، وكأني بهم أوكلوا لأحدهم استخلاص ذلك من الصحف لدمجه في منشورهم المتهافت، فهم لم يستيقظوا إلا بعد أن قام الناس الأخيار من سكان جدة بالعمل التطوعي الذي خفف المعاناة، وبعد أن صدرت الأوامر الملكية بالتخفيف عن المتضررين وتعويضهم، وبمحاسبة من تسببوا في الفاجعة، ولم يعد للناس حاجة بمنشورهم هذا، ثم أوردوا مطالبهم العجائبية المثيرة للجدل، فطالبوا بمنع المظاهر العامة للمنكرات، ولم يجرؤوا على ذكر واحد منها، ذلك لأنها ليست موجودة أصلاً، وهم يتهمون المجتمع بالرضا بها وأنها تحدث كل يوم، وجموع أهل هذه البلاد يصمتون عنها، ولا يكتشفها سواهم، وهو أمر لا صحة له البتة، ومردود عليه بالواقع المعاش والمشاهد، ثم يطالبون بتعزيز دور هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاهتمام بالمناشط الدعوية النافعة، وكأن ليس في هذه البلاد إنفاق سخي على هذه الهيئات ودعم لها على كافة المستويات، وسماح لما أسموه بالمناشط الدعوية، والتي أصبحت مصدر ربح لكثير من هؤلاء، وهي وللأسف لم تؤدِ إلى شيء يذكر في مساعي الإصلاح التي إن وجدت قضي على أسباب مثل هذه الفاجعة، فهذه المناشط لا علاقة لها بالشأن العام ولا ما يعتري حياة الناس من قصور في الخدمات الواجب تقديمها لهم، ولم تجد هذه المناشط في صد هذه الفاجعة التي أسبابها حتماً ليست المعاصي التي لم تقع أصلاً ممن تضرروا، وإنما تعود إلى فعل بشري من سوء أداء في الوظائف العامة وقصور في أداء المهام وفساد في الإدارة وفي التعاطي مع المال العام، وكل هذا لا تذكره المناشط الدعوية، والغريب أن هؤلاء لم يتذكروا إرشاد الأئمة وخطباء المساجد وطلبة العلم والقائمين منهم على الجمعيات الخيرية للقيام بواجبهم تجاه المتضررين إلا بعد أن ملأ ساحات العمل التطوعي شباب وشابات جدة الخيرون، الذين لم ينلهم من هؤلاء إلا تعطيل سير عملهم والعنت باتهامهم باختلاط محرم يدعونه، فمثل هؤلاء إنما ينصرفون للثرثرة لا إلى العمل، والغريب أنهم ينهون منشورهم بتذكير المتضررين بالإيمان بالقضاء والقدر، واحتساب الأجر، والصبر على البلاء، في هدمٍ ظاهرٍ لما بنوه من قبل في مطالباتهم وكأنهم يعتذرون عن المخطئين ويبررون لهم تقصيرهم، حتى وإن حشروا عبارة (وإن ذلك لا ينافي المطالبة بحقوقهم الخاصة والعامة)، وبعد أن ينتهي المنشور قالوا: كتبه القضاة والمشايخ والدعاة، وبمراجعة الأسماء فجلهم من الموظفين، الذين لو اشتغلوا بما أوكل إليهم من مهام وأتقنوا العمل وتركوا الثرثرة التي لا تجدي نفعاً لاستطعنا مواجهة كل خطر تتعرض له بلادنا، أرشدنا الله واخواننا إلى الحق وجعلنا ممن يأخذون به انه سميع مجيب.