أذهلني تصريح منسوب إلى معالي رئيس هيئة الرقابة والتحقيق عند سؤاله عن امكانية التشهير بمن تسبب في كارثة جدة، فتحفظ قائلا إن ذلك يعد عقوبة متعدية قد تضر بمصالح المشهر به في السوق أو بأحد من أسرته. اللافت في كارثة جدة أن كل الجهات المتسببة فيها أنكرت علاقتها بها، هكذا كأنما الكارثة هبطت علينا من السماء، بل هم يزعمون ذلك تحديدا. الأمانة نفت علاقتها وكذلك مصلحة المياه والصرف الصحي، بل حتى المقاولون، جميعهم قالوا أن كمية المياه المتساقطة من السماء فاجأتهم قبل اكتمال مشاريعهم، السيول انتظرت أكثر من ثلاثين عاما ولم تكتمل مشاريعهم، ما كان يكتمل هو إحكام دائرة الفساد في سرقة ونهب المال العام. ولأن بقرة جدة متهمة في أمانتها فقد كثرت سكاكينها، تبرعت جهات أخرى بإعلان براءتها من الكارثة وإن علي طريقة يكاد المريب، محكمة جدة، مثلا، أعلنت أن الأمانة هي من حول أراضي في مجرى السيول إلى مخططات سكنية، ولم يسأل نفسه من صرح باسم المحكمة متى توقفت عمليات إحياء الأراضي، وبموافقة من تم تملك تلك الأراضي، ومن كان يرفض احتجاجات مندوبي الأمانة. الدفاع المدني ودوائر الشرطة والمرور في جدة فوجئوا هم أيضا بما تساقط من السماء، ولو سألت أية جهة منهم عن وجود خطة طوارئ عامة لأية مدينة يقومون بخدمتها أو حتى قرية لرأيت نظراتهم ترتفع إلي السماء مجددا. تعددت أيضا تفسيرات الكارثة، منها ما يعيدها إلى غياب الحس الديني، وهذا سبب معقول إذا قصد غيابه لدى مسئولي، أو فاسدي بالاحرى بعض الجهات الرسمية، أما تحميله علي ساكني الأحياء المتضررة بسبب ذنوبهم، فهذا حديث باسم رب العالمين كما قال ابن القيم رحمه الله، ومما لا يجوز لبشر التلفظ به، فالقصد هنا أخذ العبرة وتمعن جبروت الله ورحمته في آن، وإن كان حقا ما يزعمون فلم يجاورون أهل المعاصي، ألم يعلنها صريحة عمر رضي الله عنه أنه سيهجر سكان المدينة إذا زلزلت أرضها ثانية، السيول المدمرة تتكرر في منطقتنا كل ثلاثين عاما أو نحوه، فهل سيهجروننا؟ تفسير آخر يعيدها إلى غياب الحس الوطني، اتركوا الوطنية جانبا فنحن بحاجة لعقود للتخلص من الفكر الفئوي الضيق للقبيلة والعشيرة، لنفكر بأرض تربينا عليها ومن خيرها رزقنا وما يلزمنا تجاهها، إذا ضرب سيل جدار بيتك بسبب تقصير جارك، هل ستحدثه عن الوطنية أو عن حق الجيرة؟ سيطول حديثك معه وسيطول استماعه لك بدون نتيجة إذا لم يكن هناك قانون يمنع ذلك، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فإذا علمت أن مقاضاة جارك قد تأخذ سني عمرك عرفت أن معاناتك ستطول كطول ليلك، ليل الجهل بقيمة الوطن في وجدان الشعوب وظلام الجهل بحقوقك وواجباتك. تفسير آخر يعيد سبب الأزمة إلي فشلنا الإداري، البيروقراطية والروتين هما السبب، ضعف وتقادم أنظمتنا المالية هو السبب، ضعف الأداء الإداري لمدراء العموم فما فوق هو السبب، ومن هنا جاءت صحوة مجلس الشورى المتأخرة ومطالبته بهيئة ملكية لحماية جدة من الكوارث، آخرون طالبوا بشركات مقاولة أجنبية لتنفيذ مشاريعنا. كل هذه أعراض والداء الحقيقي هو وجود الفساد بكل صنوفه وأنواعه ودرجاته، بيد أن الفساد وحده ليس السبب، هو موجود في كل دول العالم، تتباين نسب تواجده في كل دولة، إلا أنه موجود. غير الموجود هنا هو قوانين مكافحته وكشفه. وهنا، في محطة الفساد، أتوقف قليلا، ولأن حجمه ما زال يؤرقني منذ أكثر من عام سأذكره ثانية، رقمه يساوي حجم ميزانية الدولة لثماني سنوات، أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي، أما مقداره فثلاثة تريليونات ريال وهو مبلغ يكفي لإقامة البنية التحتية لقارة بحجم أفريقيا، وهو مجرد مبلغ صغير مقتطع من المبالغ الأكبر منه والمعتمدة لمشاريع البنى التحتية سنويا في الميزانية، هذه الأرقام الفلكية التي تفتح شهية الفاسدين خصوصا إذا غاب الرقيب أو إذا تُرك المال سائبا. ولقد أذهلني تصريح منسوب إلى معالي رئيس هيئة الرقابة والتحقيق عند سؤاله عن امكانية التشهير بمن تسبب في كارثة جدة، فتحفظ قائلا إن ذلك يعد عقوبة متعدية قد تضر بمصالح المشهر به في السوق أو بأحد من أسرته، ليسمح لي معاليه، إن صحت نسبة التصريح إليه، أن هذه رقة في غير موضعها وقد تثير الشبهات، وإلا كيف تراعي مصالح المفسد وسمعته وأسرته، وهو من ضحى بها أولا ثم بأرواح عشرات المواطنين وهو من أضر بسمعة البلد، هل تتساوى سمعة أسرة مع سمعة وطن. إن كان من نقطة مضيئة في ظلام كارثة جدة فهي هذه الأعمال البطولية التي قام بها شباب وشابات جدة، هؤلاء الذين بذلوا أرواحهم في إنقاذ الغرقى ووزعوا وقتهم في إسعاف الجرحي وتوزيع سلال التموين، نصف هؤلاء مازال يبحث عن وظيفة، ثلثهم حرم من مقعد في الجامعة، ربعهم حرم من معهد يدربه أو يؤهله لكسب رزقه. ألا يظهر هذا أهمية مؤسسات المجتمع المدني التي لا زال مشروعها مضيعاً بين مجلسي الشورى والوزراء منذ سنين، لماذا تضع الحكومة على كاهلها حل كل مشكلات المجتمع، لماذا لا تعطى فرصة لمحبي الخير في تنظيم أنفسهم لخدمة بلدهم، وهذه المؤسسات لا الحكومة، هي المعين الأول في كل دول العالم في مواجهة الكوارث ومعضلات المجتمع. قبل أن أختتم أود توجيه سؤال لكل من سيخطط لتصريف السيول، هلا فكرت في حجزها للاستفادة منها، أليس غريبا أننا نعاني من شح المياه وندرتها، ثم نترك هكذا كميات منها تتسرب إلى البحر هدرا، أليس ممكنا تجميعها في بحيرات ثم سقيا المزارع منها أو حتى بتوزيعها دوريا لتشكيل فرشة خضراء لكل مدينة يسقط عليها المطر، ألا يمكن خزنها كاحتياط استراتيجي، ولكن أنى لمن يفكر في بحيرة النجس أن يفكر في شيء آخر؟.