حينما يشعر الجميع أنهم محاسبون على إهمالهم، وتقصيرهم، وعدم مبالاتهم بما أُوكل إليهم من المهام على ساحة الوطن كلها، فإن هذا كفيل بالقضاء على كثير من المشكلات التي يعاني منها الناس في وطننا الغالي. إنَّ الأمر الملكي الذي صدر يوم الاثنين 13/12/1430ه تحت رقم (أ-191)، المتضمن رؤية وطنية راقية تجاه الحدث الكارثة، التي ألمت بأهالي جدة يوم الأربعاء 8/12/1430ه أعاد إلى المواطنين الثقة بأن حقوقهم مصانة، ومصالحهم مرعية، وأنّ قيادة وطنهم تنظر إلى ما يقع عليهم من ضرر نفس نظرتهم، فما حدث لا يمكن وصفه بالكارثي لو وقع في غير مدينتهم، فتلك الأمطار التي هطلت عليها يهطل أضعافها على كثير من البلدان في شتى أرجاء العالم، ولا تحدث من الأضرار ما أحدثته في مدينتهم، بل إن بلدانًا في العالم تهطل عليها الأمطار بصفة مستمرة بكميات تفوق ما هطلت على مدينتهم، وتتعرض للأعاصير والفيضانات، وهي اقل من بلدهم إمكانات وقدرات، ولا ينتج عنها من الخسائر والأضرار المفجعة مثل ما حدث في جدة، ممّا يدل بوضوح أن الكارثة إنّما حدثت بفعل أخطاء بشرية متراكمة عبر الزمن، أهملت فيها هذه المدينة حتى حلت الكارثة، ويؤكد الأمر الملكي أن الاعتراف بالخطأ أولى درجات إدراكه، وإن إزالته تقتضي اتخاذ القرارات الصعبة التي تبدأ بإزالة كل أثر له على الأرض، ومحاسبة كل متسبب فيه، أيًّا كان منصبه، أو مكانته عند نفسه، أو عند مَن يلمعونه ويثنون عليه، رغم ما بلغ سلوكه من السوء الذي يجب أن يحاسب عليه، فلا مكان بعد اليوم لمهمل، أو فاسد متلاعب بالمال العام، فواجب الأمانة والمسؤولية يحتم التصدّي لآثار الفاجعة، بالتحقيق في أسبابها وتحديد المسؤولية عنها والمسؤولين، سواء أكانوا أشخاصًا، أو جهات رسمية، أو أهلية، ومحاسبة كل مقصر ومهمل بكل حزم، فهذه الرؤية الوطنية الناضجة والمتوخية الإصلاح، الذي أولى خطواته إدراك الأخطاء مع الاعتراف بها، ثم معالجتها بالتحقيق في أسبابها، والمساءلة لمن تسبب فيها، ثم فرض العقوبة الرادعة عليها، لا يستثنى من هذا أحد مهما ارتقى منصبه، فالكل أمام المسؤولية الوطنية سواء، لا يعفى من هذه المحاسبة أحد منهم، وحينما تصدر هذه الرؤية من أعلى هرم القمة في قيادة هذا الوطن، وتعلنها بكل الصراحة والشفافية فإن المنتظر أن يكون التطبيق لها حازمًا وحاسمًا، لا في هذه الفاجعة التي حلّت في جدة، بل وفي كل ضرر يقع على المواطنين أيًّا كان قدره، سواء أكان عبر قرار غير مسؤول، أو تصرف خاطئ، وحينما يشعر الجميع أنهم محاسبون على إهمالهم، وتقصيرهم، وعدم مبالاتهم بما أُوكل إليهم من المهام على ساحة الوطن كلها، فإن هذا كفيل بالقضاء على كثير من المشكلات التي يعاني منها الناس في وطننا الغالي، ولعل هذا الأمر الملكي الرائع يحيي فكرة “الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الفساد”، التي أعلن عنها سابقًا ولم تفعّل، وأن تحشد لها من الطاقات والكفاءات الوطنية المخلصة ممّا يجعلها حقيقة واقعة، لها بسلطة النظام المتابعة الدقيقة لكل ما تقوم به الأجهزة الحكومية والهيئات المستقلة والأهلية أيضًا، لتكتشف بؤر الفساد، وتحقق في وقائعه، وتنشر على الناس بكل الشفافية الممكنة نتائج عملها، بعد أن تبلغها للقيادة، وتعرضها على مجلس الشورى والحكومة لاتخاذ القرارات الحاسمة، التي تجتث الفساد من جذوره، وترفع عن كاهل المواطنين أضراره الفادحة، ولعل هذه اللجنة المكونة من جهات رسمية متعددة لها صلة واضحة بمهمة الرقابة، كهيئة الرقابة والتحقيق، ووزارة الداخلية، والاستخبارات العامة، ووزارة العدل، وديوان المراقبة العامة تكون نواة لهذه الهيئة الوطنية المرجو تفعيلها ومباشرتها العمل في شتى المجالات، على أن يضم إليها من المحايدين مَن لهم فكر ناضج، وتجربة طويلة في هذا المجال، وأن يكون الحزم والحسم رائدها، حتى يمكن أن يُقضى على كل إهمال وفساد يتسبب في الكوارث، فاذا كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -أيده الله ورعاه- طالب هذه اللجنة بالجد والمثابرة في عملها بما تبرأ به الذمة أمام الله عز وجل وقال: هي من ذمتنا إلى ذمتهم، فقد أوكل إليهم أمرًا عظيمًا هم -بإذن الله- قادرون على تحمّل مسؤوليته وأدائها بأفضل صورة، وفي زمن قياسي، ما استشعروا عظم المسؤولية، وجسامة الخطب، فهذه الأسر المكلومة بفقد أفرادها، وضياع بعض أموالها، وخراب مساكنها تنتظر نتائج تحقيقاتهم، وتعلّق الآمال عليهم في أن يحققوا لها العدل الذي يرفع عنها الظلم الذي وقع عليها، وحتمًا لا أحد يرضى أن يظلم أحد ممّن هم في مواقع المسؤولية إذا ثبتت براءته، ولكن الجميع يطالبون بأن ينال كل مهمل لما أُوكل إليه من مهام يترتب عليها مصالح العباد عقوبة إهماله، أو فساده، وعدم مبالاته التي أوقعت الضرر على الناس، فهذا هو مقتضى العدل والإنصاف، وهو ناتج المسؤولية التي فرّط فيها، حتى لا يلي من الناس أحد شيئًا، وهو لا يجد في نفسه القدرة على تحمّل مسؤوليته، وأداء الواجب فيه على أكمل وجه وبإخلاص، وإنا لمنتظرون.. فهو ما نرجو، والله ولي التوفيق.