ألم يحن الوقت لنتغلّب على خلافاتنا، وعنجهيتنا، وغرورنا، ونعلم أنها مزالق من الشيطان. * في رحاب البيت العتيق تُجلى الهموم، وتزول الكربات، وتُقضى الحاجات، هنا عند الكعبة، وفي المقام، وبين الصفا والمروة، وعند زمزم، وفي كل البقاع الطاهرة يحلو لقاء الأفئدة بخالقها، حيث ترى أفواج الحجيج يملأون ويفرشون كل المساحات، ملبين، ومهللين، ومكبرين.. قد خشعت وجوههم وأبصارهم، وسجدت جباههم وحواسهم، وتأججت مشاعرهم، وكثيرًا ما تفيض مآقيهم بالدموع، وتلهج ألسنتهم بالدعاء... * هنا تتجسد معاني القيم والطاعة من كل مسلم تلبية واستجابة لدعوة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام التي أمره الله تعالى بقوله: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها واطعموا البائس الفقير). * هنا معاني الالتحام، وأخوة الإيمان، وشرف المكان، ومصداقة الثوابت. * إن أفواج الحجيج في زيّهم الموحد قد لبسوا الإحرام، وتلبّسوا بالنسك الذي يذكي روح الإيمان في هذه الأجواء الروحانية المغداقة، والنفحات الإيمانية المباركة ما يجعلهم في صعيد المشاعر من الله أقرب، ومع أنفسهم أصدق وأعذب، واجتماع مع الإخوة يبعث على الأُلفة، والمودة، والتآخي، والعدل، والمساواة.. * إن الحج ركن من أركان الدِّين، وأداء هذه الفريضة يهدم ما كان قبله من ذنوب، وعنه صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنة)، وهو منطلق للعبرة واتّخاذ الحكمة، وسبر أغوار النفس المطمئنة؛ لتجد ذاك النعيم الذي أكرم الله به المسلم في شرق الأرض وغربها.. * إن الحج معنى جليل، يعيه، ويتفهمه، ويعيشه كلُّ حاجٍ حيث يحمل في نفسه قيمة المعنى الموحد للأمة المسلمة من التلاحم، والتآخي، والوحدة، والاعتصام، والعدل رغم تنوّع واختلاف الألسن والأجناس واللهجات واللغات والألوان وحيهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، رابطهم وتآلفهم الأقوى والموحد. * أما آن للمسلمين أن يوحّدوا كلمتهم، ويعززوا ببعضهم صفوفهم؟ * أما آن لهم أن يربأوا بأنفسهم وفكرهم عن الزلل والتعدّي والأحقاد؟ * أما آن لنا كأمة مسلمة أن نعي أن قوتنا في اعتصامنا، ووحدتنا وتآلف قلوبنا؟ * ألم يحن الوقت لنتغلّب على خلافاتنا، وعنجهيتنا، وغرورنا، ونعلم أنها مزالق من الشيطان. * ألا تذكرنا هذه الجموع من الحجيج بالقوة والعز، وروح اليقين بأن النصر (للإسلام) مهما طال بنا الزمن؟ * ألا يعزز فينا هذا المشهد العظيم (الحج) أن الحكمة ضالتنا، إن علمنا كم نكسب، ونسعد الأعداء بتمزقنا، وتشرذمنا، وتفرقنا، وتحاسدنا، وتباغضنا.. * إن النسك عبادة محضة لله تعالى، وتقرب إليه سبحانه، فلتكن القلوب نظيفة صادقة، ولتكن النيّات والعقائد سليمة.