بملابسه التي تتأخر عن الموضة دائما بسنوات، من البالطو فوق الجلابية وحتى البدلة السبعيناتي في الألفينات، أو الجاكيت الجلد الأسود المحبب لفاندام في «لا تراجع ولا استسلام»، ونظرته المتجهمة دائما وشاربه الذي يحمل هويته الوظيفية، يظهر «المخبر السري» في الشوارع فيميزه الجميع، ونقلته السينما العربية منذ الأربعينيات حتى الآن بواقعية شديدة، لكن كيف نشأت أصلا مهنته وما فائدتها؟ عرف العرب نظام الشرطة منذ صدر الإسلام، وكان في عهد عمر بن الخطاب يسمى «العسس»، لأنه يتجول ليلا ليحرس الناس ويتفقد أحوالهم، وتطورت المهنة اسما ووصفا في العصر الأموي والعباسي، وظهر «البصاصون» جمع «بصاص» وهو الشخص الذي يقتفي أثر المجرمين والمفقودين للعثور عليهم، وكان يطلق عليهم أحيانا أيضا «أصحاب الأخبار». تطورت مهنة «البصاص» إلى «البوليس السري» بعد الاحتلال البريطاني لمصر، وأصبح يعمل مع سلطات الاحتلال كجاسوس ومع الشرطة المدنية كمرشد، كي يرصد تحولات الرأي العام، ورصد عمليات المقاومة ضد الاحتلال البريطاني، وتطورت المهنة حتى أصبحت جهازا مستقلا اسمه «البوليس السري». تطور «البوليس السري» بعد ثورة 23 يوليو 1952 إلى «المباحث»، لكن ظل «المخبر السري» محتفظا بلقبه إلى وقتنا الحالي، وتطورت مهامه مع تطور نظرية الأمن، ولم يعد ذلك الشخص الذي يراقب الخارجين عن القانون ويقتفي أثرهم لضبطهم فحسب، بل أصبح يرصد أي بوادر اضطراب أو خيوط قد تفضي إلى جريمة، لتبدأ خطة الحيلولة دون وقوعها، وأفاد ذلك المجتمع كثيرا بعد انتشار الإرهاب في التسعينات، حيث كان يعرف أدق تفاصيل تحركات الإرهابيين بين الناس دون أن يشعروا به. بعد التطور التكنولوجي ظهرت شخصية «المخبر الإلكتروني»، وتطورت أساليبه وتطور اندماجه في الحياة وثقافته، وأصبح يتلقى تدريبات ذهنية أكثر من التدريبات البدنية والأمنية التي اعتاد عليها رجال الشرطة عموما، لتتمكن هذه المعلومات من دعمه خلال مراقبته وتتبعه لمواقع التواصل الاجتماعي، وظاهرة الجرائم الإلكترونية. وأصبح المخبر السري الإلكتروني الآن أخطر من النظامي والتقليدي، حيث يمكنه التجسس على أدق تفاصيل حياة الشحص المطلوب من خلال جهاز الكمبيوتر أو الجوال، وهو قادر على اقتفاء الأثر وتتبع الخطوات بسهولة ويسر في الفضاء الإلكتروني المفتوح، عبر برامج وملفات رقمية تعمل بدورها كأجهزة استطلاع ل»الهاكرز»، أو قراصنة المعلومات، الذين يخططون لمهاجمة أجهزة الكمبيوتر والجوال والسيطرة عليها، وانتحال الشخصية عند اللزوم بدافع السرقة أو التجسس. وبدأت شركات عالمية كبرى في العمل كمخبر سري إلكتروني لحساب جهات ومؤسسات سياسية ومالية وعسكرية كبرى، حيث تقوم بحمايتها من الاختراق، وتبلغها بأسرار وتطورات الخصوم والمنافسين، وبعضها يعمل خلف خطوط العدو إلكترونيا، من أجل عمليات معلوماتية، وأحيانا تخريبية، وهو ما يعرف حديثا باسم الحرب الإلكترونية، والتي يعمل في طليعتها «المخبر السري الإلكتروني». يتناول الدكتور شريف عوض أستاذ علم اجتماع بكلية آداب جامعة القاهرة «المبدع يعكس دائما على الشاشة الشخصية الحقيقية في الواقع، بالسمات الشكلية والنفسية، وحين كان المخبر السري محوريا وذو طبيعة متجهمة صامتة جادة، صورته السينما كذلك». ويتابع «أنت الآن لا تحتاج إلى المخبر السري، التكنولوجيا المتطورة ومواقع التواصل بجميع أنواعها أصبحت مخبرا سريا كبيرا يحوي كل تفاصيل العلاقات بين الناس، يكفي اختراق حساب أو هاتف أو جهاز كمبيوتر للوقوف على كل التفاصيل التي كان يكلف المخبر السري قديما بجمعها، وبالتالي بدأت الشخصية النمطية تختفي من الشاشة». وعلى الرغم من إجماع الآراء على أن «المخبر السري» أصبح من الكلاسيكيات، إلا أن السينما قادرة حتى الآن على توظيفه في مجال الكوميديا بشكل متجدد دائما، وبخاصة من المفارقة التي تحدث بين المسمى الوظيفي «مخبر سري» وبين حقيقة وضعه كشخص «مكشوف» دائما في كل تصرفاته. وفي السينما العالمية، ظهرت شخصية المخبر السينمائي بأشكال ومراحل مختلفة، أشهرها «كولومبو» ومخبر أفلام «هيتشكوك» الشهير، ثم التحري الخاص «شيرلوك هولمز» وصولا إلى «جيمس بوند». وفي السينما المصرية برز دور المخبر السري عبر مختلف الأجيال السينمائية، واستقر في المرحلة الكلاسيكية على الشكل التقليدي وكانت أغلب هذه الأدوار كوميدية وساخرة، وظل بالشكل التقليدي بالسبعينيات والثمانينيات، وتطور شكل المخبر السينمائي وتحول من الكوميدي للواقعي، الذي قدمته السينما في شكله التقليدي، وأيضًا في شكله الحديث. السينما والمخبر السري أشهر المخبرين في تاريخ السينما المصرية هو الفنان مطاوع عويس، وأبرز أدواره كان فيلم «الوحش» إنتاج 1954، بطولة أنور وجدي ومحمود المليجي، ثم فيلم «عفريت سمارة» 1959، بطولة تحية كاريوكا ومحسن سرحان، و»إني أتهم» 1960، و»يوم الحساب» 1962، و»لصوص لكن ظرفاء» 1968، إضافة إلى مشاركته في أكثر من 461 عمل بين مسلسلات وأفلام أشهرها «الحرافيش» و»الحريف»، و»الضوء الشارد». الوجه الثاني الأكثر شهرة في السينما العربية في دور المخبر، هو الفنان محمد أبو حشيش، أشهرها في فيلم «ليلة شتاء دافئة» 1981، مع عادل إمام ويسرا، وقدم نحو 300 عمل بين مسلسلات وأفلام، برع فيها في دور العسكري ذي الوجه المنفذ للقانون مثل «الشريدة» 1980، «البعض يذهب للمأذون مرتين» 1978، و»طائر الليل الحزين» 1977. وعلى مستوى التقديم الساخر لدور المخبر السري، فإن «الخلطة» التي قدمها الراحل القدير عبد السلام النابلسي في شخصية «الصول بكير» في أحداث فيلم «إسماعيل ياسين بوليس سري»، كانت من أحدث تطورات شخصية المخبر السري في السينما، بل وظلت باقية حتى الآن عصية على المنافسة، فهو يجمع بين الفنيات العادية المستخدمة في تقفي الأثر والمراقبة، وبين الأساليب الاستخباراتية الحديثة في التتبع والتنكر، إضافة إلى التفكير الاستنتاجي المنطقي، المبني على شخصية المجرم لتوقع خطواته المقبلة وخداعه والإيقاع به في النهاية. ثم بدأت السينما تتحول في تناولها لشخصية «المخبر السري» من دور هامشي أو دور ساخر إلى دور فاعل في خلطة الأحداث، أشهر هذه الأعمال «مواطن ومخبر وحرامي»، حيث جسد دور المخبر الفنان القدير صلاح عبد الله، دور المخبر فتحي عبد الغفور. أشهر المخبرين في السينما أما المنتج السينمائي أيمن يوسف، فيوضح أن تطور دور المخبر السري في السينما نابع من تطور جهاز الشرطة في الواقع، وأصبح لدى الشرطة تقنيات تتبع مثل «جي بي إس» وتحديد المواقع من الهاتف، فتراجعت أهمية المخبر السري في السينما، وبدأ في الظهور كشخصية كوميدية في كثير من الأفلام مثل الفنان سليمان عيد في فيلم «الباشا تلميذ». وأكد يوسف أيضا أن المخبر السري لم يعد هذه الشخصية النمطية، بل أصبح يتلقى تدريبا على أعلى المستويات، سواء المستوى البدني الأمني أو المستوى التقني أو المعلوماتي، ويتلقى محاضرات في علم الجريمة وتقنيات التخفي والتتبع، ولم يعد المرشحون له من الفئة التي تلقت تعليما بسيطا كما كان في السابق، لذلك بدأ يختفي في السينما، وتحل حله الإمكانيات الحديثة، تماما كما بدأ يختفي «عسكري الدورية» الذي يمسك بصافرة يستدعي بها قوة الأمن في حالة رصده أي اضطراب أمني. لم يعد شخصية نمطية «المنصات» مخبرا سريا