داخل بيتنا نخلة هي الآن أكبر مني ومن أخواتي وإخواني الكبار.. مات أبي وهي واقفة شامخة تعزي، وماتت أمي وهي تبكي.. ربما كان بكاؤها على جمال رقتها وصبرها وطلتها! وأمام تلك النخلة الكبيرة، وعلى مسافة عشرة أمتار من الجهة القبلية، تقف نخلتنا الصغرى، والفرق بينهما أن الأولى هي الوحيدة ربما في مصر تقف داخل بيت حديث بالمفهوم العمراني، أما الثانية فخارجه! ولأن ذلك كذلك، فقد بقينا نتعامل مع النخلة الكبيرة بحميمية شديدة وباحترام أشد، فلا أحد يمسك بحجر أو بطوبة ويقذفها، وهي عادة الصبية عند طمعهم في تمرة أو اثنتين، أو حتى في حفنة أو «طورة»، لا من داخل البيت ولا من خارجه! ثم أن أحدًا منا لم يحاول الصعود إليها مستعينًا بالسلم الداخلي للبيت إلى الدور الثاني، ومن ثم الوقوف على الجدار الذي تستند إليه، واستكمال بقية المهمة إلى نحو السباط المملوء بالتمر! ترتكن النخلة الضاربة بجذورها في عمر التاريخ، على جدار البيت، ومع ذلك لم نشاهد أو نسمع عن شقوق أو شروخ، ولم نستشعر أي خطورة علينا أو على البيت مهما كانت شدة الرياح! وعلى العكس فهي توزع جريدها الكثيف عند المطر، بحيث لا يتساقط منها إلا القليل على أرضية جزء من المساحة التي تشغلها في «بير السلم» الملاصق لغرفة المطبخ! وكنت قد تعلمت صعود النخل وتدربت عليه ومارسته مع النخلة الصغيرة، والتي لم تصبح صغيرة، فقد غافلتنا وزاد طولها لنحو ثلاثين مترًا، لكنها أبدًا لم تتجبر أو تتكبر، وظل جريدها يقذف بما يجود به من حبوب اللقاح، صوب النخلة الكبيرة! وكنت أشعر بالخجل وأفكر ألف مرة قبل إعلان انحيازي لتمر النخلة الصغيرة مقارنة بالكبيرة، خاصة عندما تحط عليه الدبابير من كل الجهات ويصبح «بلح أمهات»! ثم أن أمي لا تفتأ تتحدث عن جمال وطعم تمر النخلة الكبيرة، الذي يساقط منها ويأتي طوعًا على الممر الرخامي الواصل إلى غرفة المطبخ. لقد ذكرني حديث أمي عن النخلة الكبيرة، بحديث أستاذي عبدالفتاح الجمل وهو يقرر أن لا شيء في النخلة يذهب هدرًا، فهي لا تعرف الهباء، هي من جعلت خدها للناس مداسًا، ومن قلبها الجمار طعامًا وشرابًا، ومن جسدها مأوى وملبسًا ومعبرًا ووقودًا ودفئًا، ومن أطرافها أدوات مفردات توشي بفيء الزخارف من يومه المزغلل بالضوء الباهر، ومن سعفها حمى وطقوسًا وظلالًا وغناءً وحجابًا واقيًا! الآن وكلما جاءت «سيرة» إعادة بناء بيتنا الكبير غشيتني الحيرة ثم الشعور بالقلق على نخلتنا الكبيرة، وكيف سيتعامل معها المعماري أو البناء؟! لقد عرفنا منها ومعها معنى الجود والكرم والجمال، من قبل أن نخرج لفضاء الحياة! فلما كبرنا قليلاً عرفنا من خلالها قيمة «الجريدة» والجرائد، ومعنى «الخريدة» والخرائد، ترطب قلب المسافر منا، وتحيي معنا الحبيب العائد.. تنحني حزنًا لرحيل الوالدة والوالد، وتميل تعبيرًا عن الفرحة والغبطة والبهجة بكل مولودة أو مولود! لقد علمتنا النخلة، التي أصبحت كيانًا حيًا في حياتنا معنى الصعود، دون أن يكون ذلك، على أكتاف الآخرين! وأنك في طريق الصعود ينبغي أن تظل متواضعًا، وأن تتحرى الحذر، وبعد أن تنهي مهمتك على الأرض لا بد من تجنب السقوط في الحفر! خيال وجمال الصور البصرية، والتفكير والحركة الذهنية، الوجود الجليل، والجريد المصقول، والفرح بالطرح، والتأني فيما تقول، وما لا تقول! والواقع أنني من فرط ملاصقتي لهما، ورغم أنهما في بيتنا وليستا على شاطئ النيل، كدت أسمع ما يقوله الريح للنخيل! تنحني نخلتنا الكبيرة عند مرور عاصفة، تركن بحنان على الجدار، تمتص حزنها، وتداري عنا خوفها، وتخفيه في صوت جريدها! فيما تقف النخلة الصغرى، لتعكس نور الشمس صباحًا على وجوه البنات والصبيان، وعند الظلام، تصبح شرفة للقمر، وللنجوم التي لا تنام! ذكريات الطفولة، في قلب تمرها، وأسرار بيتنا في قلب جمارها، ونسيم أشواقنا في طلعها، وانحيازنا للحق والكبرياء في تكوينها.. سبحان من أنزلها في منزلنا، ومن جعلها تسمو وتسمق وتحتفظ بحبها لنا! جريد طالع وحسن طابع، وتمور لم يسبق أن اشتراها أو ابتاعها بائع! رحت أتأمل في جمال نخلتنا الصغيرة التي كانت تعرج بي وبأحلامي الكبيرة الى أفق أعلى، فأصعد وأطير وكأني أمسك بعصافير الجنة! فإذا تحولت إلى أختها الكبيرة، تذكرت كيف كانت وما زالت ترفض اللعب على الحبال، تكره «الفص» وكل الحلول «النص.. نص»! إنها النخلة الكبيرة في كل شيء.. دفء الألفة، وفيض البهجة، وجمال لم أشهد مثله!.