كان للنخلة الحظ الأوفر في قيادة الاقتصاد الزراعي مع أن كل الإمكانات ضعيفة والحال أضعف، ومع ذلك تم تكريس كل الجهود من أجلها فأعطوها من وقتهم وخبراتهم فجنوا ثمرة طيبة منها، كما أنها تصدرت واجهة الجمال فتسابق الشعراء في وصفها والمصورون في التقاط أجمل صورة لها، ورمزت للشموخ والعزة لارتفاع رأسها وثبات أصلها واستحقت أن تكون رمز النماء، يقول الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن من قصيدة يصف فيها صبر البدوي وتجلده وعزته وشموخه: مثل النخيل خلقت أنا وهامتي فوق ما اعتدت أنا أحني قامتي إلا فصلاتي نعم كل ذلك في النخلة وأكثر، عندما يمر على مسامعنا مسمى النخلة والنخيل يتبادر إلى الذهن كل جميل وكل ظل ظليل وكل رصيد من العطاء أعطته النخيل من سعفها وجريدها وكربها وجذوعها وخوصها وتمرها حتى قلبها وشحمة جوفها ناولته لنا. في النخيل جمال المناظر وهدوء يختلف عن بقية الأشجار فهي تهدئ الريح العاصفة ولا تهتز للهواء ولا يتساقط ورقها، وتجعل من المكان وخضرتها الدائمة وظلها استراحة وراحة. ويزيد المكان جمالا سماع الماء وخريره وأصوات العصافير والحمام في أعاليها وفوق جريدها وحركة الهواء للخوص والعسيب، ولا تتوقف الصورة عند هذا بل تستمر في تعاقب، مع الفلاح وأعماله وحرصه على نخيل بستانه من سقيها وحتى حمايتها. ولقد راعني من أخبار الزراعة ما كثر حول النخلة وأمراضها في هذا الوقت، وأقسى هذه الأخبار انتشار سوسة النخيل التي إن لم يتم مقاومتها بشكل فعال فقد تقضي على ملايين النخيل، وتلحق بالاقتصاد خسائر كبيرة، ولا شك أن هناك اجراءات اتخذت ولا تزال ولكن نظرا إلى أن سوسة النخيل خطيرة وتستهدف أعز ما يقوم عليه اقتصادنا ويرتبط بتاريخنا ونعده لمستقبلنا صار الهم منها والانزعاج من انتشارها ورؤية النخيل بين المرض والموت، أكبر وأكثر ألما وحزنا. مثل النخيل خلقت أنا وهامتي فوق ما اعتدت أنا أحني قامتي إلا فصلاتي نريد النخلة سليمة ومحمية من كل آفات يمكن أن تتعرض لها ففيها مستقبلنا نجني منها لذيذ التمر ومؤنة السنة كلها: يقول الشاعر سعد بن جدلان: ليتني مثل النخل ما يجيب الا تمر لاجل ما يزعل عليه فلان ولا فلان ادري ان الوقت حواج والدنيا ممر والاصدقاء ما تذخر الا لحاجات الزمان فقد تمنى لنفسه أن يكون مثل النخل، تشبيها لهذه الشجرة الطيبة التي يذخرها الناس كما الصديق تجده وقت الحاجة ولا يغضب على الطيب أحد. ارتبط أجدادنا بالأرض وزراعتها والفلاحة والعمل فيها، وحازت الزراعة على أكثر من 80% من مهنة وعمل السكان قديما، فاليد العاملة في كل صباح كانت تتوجه للمزارع، بل إن سكان القرية بمختلف فئاتهم ينتقلون إلى المزارع التي تكون عادة حولها وهذا التلازم أوجد رابطة حميمية بين ساكن الصحراء وبين النخلة. أما القول الذي يتردد والعبارة التي تقول «أكرموا عمتكم النخلة» فليس قولا صحيحا ولا أصل له، فهي ليست عمة لإنسان ولا لأشجار، بل هي شجرة معطاء طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن اعتنى بها جنى الكثير من الفوائد. ولقد استطاعت النخلة بما تعطي وما تطلبه أيضا من رعاية وعناية ولو كانت بسيطة وسهلة، استطاعت أن تمتص كل فراغ لدى الشباب ومن يقوى على العمل صغارا أو كباراً نساء ورجالا، وكثير من كبار السن اليوم يتذكرون أنهم كانوا يقومون بمهمات وعمل في المزارع وهم صغار السن جدا حتى سن شيخوختهم. ورغم تنوع مجال وخيارات الزراعة والغرس للأشجار إلا أن النخلة في كثير من المناطق صار لها السيادة على بقية الأشجار والمزروعات وذلك لوفرة عطائها وتنوعه وتعدد أصنافها، ومثلما برزت شجرة الزيتون في فلسطين وشجر الكروم والعنب في دول البحر المتوسط، فإن النخلة سيدة أشجار الصحراء بلا منازع.. وبركة النخلة معروفة فقد كانت الغذاء والوقود ومادة تشييد الدور والبنيان ومصدرا من مصادر الخام لكثير من المصنوعات اليدوية الخوص والليف والخشب ، منها صنعت الأبواب والزبلان والحصر وسقفت بجريدها الدور كما أنها ظل وجمال. وهي سهلة الغرس والمتابعة والعناية، قياسا على غيرها من المحاصيل والمزروعات التي لا تصبر على انقطاع الماء كالخضار مثلاً، وقد ارتبط الفلاح القديم والمجتمع بالنخلة باعتبارها اقتصادا استثماريا ناجحا، وذلك بعد تجربتهم معها سنين طويلة وعقودا من الزمن، فمن الملاحظ على وصايا الآباء والأجداد أن أغلبها ذات صلة بالنخلة، فمن يملك ولو نخلة واحدة في مزرعة من المزارع فقد امتلك مصدر رزق له ولأولاده قد يكفيه طيلة حياته، واستطاع من يمتلك نخلا أن يبني خطة غذائية وميزانية للسنة كلها من خلال تقديره لإنتاجها واستهلاكه وقل أن يصيبه الفقر والحاجة، وهذا بالفعل ما عمله أفراد المجتمع فيما مضى، يحرصون كل الحرص على امتلاك شيء من النخيل ويوصون بها لأولادهم من بعدهم، كما يدفعون من ريعها أجرة أو مصروفا لكل ما يحتاجونه، فهي في الحقيقة رصيد منتج شكل أمانا في بلاد صحراوية تتقلب فيها المواسم بين فترات الجفاف والخصب، فتصمد النخلة دون غيرها من المزروعات والأشجار والمحاصيل. وأول ما يفكر فيه الفلاح في نهاره كيف يحسن من إنتاج نخيله، كما أن أكثر ما يهمه حماية مصدر رزقه، لهذا بنيت على النخيل الأسوار وحفظت من الآفات سواء فيها أو في أراضيها من النباتات الطفيلية التي تضر ولا تنفع، ويحزن صاحب النخل لو رأى نخلة قد أصابها مكروه، فكأنه أصيب هو لفرط محبته، كما يحن إلى نخيله مثلما يحن إلى بقية مجتمعه في حال الغياب والسفر. يقول حميدان الشويعر: الا يا نخلات لي على جال عيلم حدايق غلب شوفهن يروع اخذت بهن عامين حيال زوافر من القيظ ما خلن فيّ ضلوع فلا يا نخلات الصدر جضَّن بالبكا وهلن يا هدب الجريد دموع ففي ثنايا قصيدته صوت الوجع القلبي على نخيله، وهو ينظر إليها قبل مغادرته ليس كراهية لها ولا زهدا في المكان، ولكنه أبدى أسبابا جعلته يودع نخيله ويعتذر منهن، فرغم غلاهن وقيمتهن وقربهن من قلبه إلا ان الدوافع للمغادرة أكبر وأقسى على قلبه، إن وقت الوداع يتذكر زمن عاشه بين نخيله وتعبه في العناية بهن وارتباطه بذكريات كثيرة حول تلك النخيل والفلاحة، ولكن مع هذا سيتركهن حتى ولو كانت تلك النخيل تشرب من الشط ونهرالفرات وتقع في أجمل مكان. وليست ذكريات النخيل معزولة عن بقية الذكريات في المكان ومرتاديه، بل لها كل الارتباط بالمجتمع، لأننا عندما نذكر الزراعة والنخيل فإننا لابد من تذكر كل ما حولها وما في بيئتها العامة من أنشطة وما ضمته من تاريخ وما فيها من أنس وأناس. هذا تساؤل من الشاعر بخيت الجهني عندما قال: وين النخيل اللي عليها اشقر الليف؟! كانت من أول بين بايع وشاري يسأل بتعجب ولا يريد جواباً الاستفادة من أجزاء النخيل في بعض المصنوعات اليدوية النخلة أمان في بلاد صحراوية تتقلب فيها المواسم بين الجفاف والخصب