كحورية جميلة الملامح بسيطة التفاصيل تجلس بمحاذاة البحر، ترى انعكاس ضوء القمر على بياض خديها، تلامس يدها مياه الحياة المالحة برقة، وبيدها الأخرى ترسم أحلامنا على رمال شواطئها. تلك عروس البحر الأحمر بوشاحها المزركش بأسماء الطرق والأحياء وقلوب سكانها، وكأنها الأم الرؤوم وهي تحتضن أبناءها بين كفيها وتبث داخلهم المحبة والسلام. جدة مدينة الحياة المزدحمة بالحياة فلا يكاد نبضها يهدأ حتى يبدأ؛ مدينة لا تعرف النوم فهي تدور وتمتزج ليل نهار بكل ألوان البشر، وما أن تطأ قدماك هذه المدينة الفاتنة حتى تشعر بأن جزءا من قلبك قد سُلِب وغاص في أحشائها وسارت دماؤها في أوردتك فإذا بك تنفجر شوقاً كلما ابتعدت عنها وكأن هناك خيوطاً خفية تجذبك نحوها بلطف. مدينة كالحلم تحمل بين أروقتها التناغم والتضاد؛ فتجد المباني الشاهقة والأحياء البسيطة، ترى المواطن بجانب المقيم سواء، تذوب بين أبنائها كل مسميات العنصرية والطائفية المقيتة والقبلية المنتنة فتجدهم على قلب واحد رغم شدة الاختلاف والائتلاف. حين تسامر حُسنها وتتغزّل بمحاسنها ستشعر بروحك تحوم في مدينة أفلاطونية ساحرة، مضيئة بالسلام الدائم، مدينة لا تعرف سوى الحب ولا تُتقِن سوى العزف على أوتار البساطة والوئام. أمواجها الثائرة تحكي قصصاً وأساطير لمَن عاشوا على أرضها، ورمالها تقصُّ آثار أقدام من مشوا عليها، ومبانيها التاريخية تحمل في حجراتها وبين أزقتها المهجورة حكايات وآثاراً خالدة للأجداد باقية كالوتد الصلب تستند عليه الأجيال القادمة. جدة رحِم الأرض التي أنجبت العظماء الذين بنوا الوطن بسواعدهم القوية ودمائهم الوطنية النقية. جوها دافئ كأرواح سكانها ورطباً كحبات الندى المُتشبثة بأوراق الزهر البِكر، تتوارى مدينتي خجلاً وتواضعاً وتتعالى سمواً عن التفاخر بماضيها العريق وحاضرها الفاخر الذي إن نطق سيُطفيء بريق كل المدن من حولها، فلا رهان على جمالها ولا منافس لها فهي عروس البحر، فمن يضاهي جمال العروس في ليلة عرسها! ماذا عساي أن أقول عن تلك الحالمة العاشقة التي احتضنت طفولتي وكل مراحل عمري وسكبت داخلي الحب والتعايش والسلام.