هي أول أنثى من خارج بيتي حملتني، وهي أول أنثى بعد شقيقتي نجوى غنت لي!، عدت لأبحث عنها، قالوا حارت بخطاها خلف خطاها، همست كالعادة بحفيف الكلمات.. راحت ما عادت! قالت أختي: كانت اذا رأت وجهك يكفهر أو يحمر من شدة الحر، ينتابها القلق، فتردد ما حفظته من سورة الفلق، قبل أن تصرخ في وجهي أمام الجالسات والجالسين: داريه! أحنا مش ناقصين!. حين زرتها لآخر مرة، في وسط دارها، انهمرت دموعها كأنها مطر.. كانت تخاطب القمر، فقد هدها الملل والتفكير والكدر! كنت أدرك أن مشكلتها وسر معاناتها النفسية حجم كرامتها!، كان أبوها من أثرياء القرية، حتى أن العزبة التي يسكنون فيها والسكة التي يمشي الناس عليها اسمها «سكة الشماينة»! كانت هادئة تماماً أمام من يعرفها ويقدر موقفها، فإذا أنكر أن العزبة عزبتهم، وأن السكة سكتها، يانصل لسانها! السكة التي أمشي عليها تسألني عنك، مشاويرك المتعبات، ومواقفك المبكيات، وتشبيهاتك وأوصافك المضحكات، أحاول الابتعاد عنها فيشدني الحنين.. الحنين الذي لم تتغير رائحته، والذي يعتريني كل حين. أتذكركِ حين كنتِ تمشين تحملقين في أشجار الحديقة، ثم تحدقين في الأرض بدقة، وكأنما تبحثين عن الحقيقة!. تلتقطين شيئاً تركتِه على الحد، لتبحثي عنه ثانية يوم غد!. لن أنسى ذاك اليوم، الذي سمعتك فيه تتمتمين وأنا أقترب منك بهدوء وفي سكون: من تكون هي حتى تعطيني «فلوس وهدوم»!، تغوص نظرتك الخجلى داخل العيون، لكنك ترددين: كيف آخذ منها كيف يكون؟، تمدين يديك وأنت تقذفين بحمولتك، وكأنك لا تدرين كيف وافقت وكأنك لم تكوني تدرين بما فعلت وتفعلين! أشاغبك وأنا أقول لك: «مكنش العشم»! كيف ترفضين أن تسمعي الكلام وتذهبي لإحضار الداية ليلة ولادتي وتقولين لهم: يوجد مطر غزير فكيف أروح! ناموا الصباح رباح!، يهش وجهها وتضحك وكأنها تتذكر تلك الليلة: كانت ليلتك «نطرة»! أقول لها إن «الهدوم» التي أعطتها لها أختي وكذا «الفلوس» مني بمناسبة عودتي، وهي أخذت مثلها.. يضيء وجهها وتعيدها الأشياء لحجرها.. وهي تبرئ ساحتها من مسألة اعتراضها على الذهاب للإتيان بالقابلة: أيقظتها من عز نومها، وجاءت معي من الدرب «بعد نص الليل» وجئت وخرجت إلى الدنيا.. فرحنا بك كما فرحنا بالقنديل!، كل ثلاث بنات.. ولد! تركت مصر الى لندن، ثم جدة، وحين عدت، سألت عنها فقالوا: ذات غروب غابت، وكأنها كانت تسعى الى المغيب، لفها الليل كماردٍ رهيب، ضيعها بعيداً في الدروب!، ضيعها وجهها الذي اكتأب.. ضيعها قلبها الكئيب! قلت: كيف؟! كنا وكانوا جميعاً يحبونها مهما صدر منها!، ضيعها حجم كرامتها، ضيعها العذاب، قبل أن تضيعها وحشة البعاد!. لو كان الأمر بيدي حين غافلتِهم وذهبتِ، لتفرغت للبحث عنك يا تحية، هناك وراء حدود القلب، في المشاوير البعيدة، والمهام العصية.. هل كنت تبحثين عن حياة جديدة!.