«يميلُ قلمك إلى الرقص مع الكلمات» أنارت تلك العبارة جانباً فكرياً لم أفطِن إليه مُسبقاً، فعلاً قلمي يعشق الرقص مع اللغة والتغزُّل بأحرفها ومُداعبة كلماتها وإخراج أدق مكنوناتها بطريقة مُتفرِّدة. لكل كاتب سيمفونيته الخاصة به التي يعزِفها على مهْل فتصِل أنغامها إلى القارئ المتذوق للإبداع، وحقاً لا يُتقِن الرقص مع الكلمات والتمايل بأحرفها ومسايرة خطواتها على نغمات الفِكر وتحت ضوء خافت من السِحر اللغوي إلا كاتب مُحترِف قادر على تحويل ذبذبات الفِكر إلى أحرف باهرة تخترق وعي القارئ وتُنيره وكما قال الأديب الأمريكي رايموند دوغلاس «يجب عليك البقاء في حالة سُكْرٍ أثناء الكتابة؛ حتى لا تستطيع الحقيقة أن تُدمّرك». الكتابة هي علاقة عشق؛ يلتقي فيها الكاتب بقلمه سِرّاً في زاوية خفية بعيداً عن صخب البشر، ينزوي في نقطة لا وجودية خارج جدار الزمن، يتلاشى في قُرص الفكر فيتناغم معه بحب ويُحرِّك أداة العقل الذي بدوره يبدأ بحياكة الفكرة بخيوط اللغة وصناعتها باحتراف واختلاف. كما في فن «الماريونيت» أو دُمى المسرح -وهو فن شعبي يعود للثقافات القديمة- يتم التلاعب بالدُمى من الأعلى بواسطة خيوط ناعمة تحركها الأصابع في الخفاء لإيصال دلالات قيمة، إنسانية أو سياسية دون الاحتكاك المباشر مع المجتمع، تماماً كالكتابة؛ يقوم الكاتب بتحريك الكلمات بأصابع خفية وبطُرُق فريدة لإيصال فكرهِ عبر ممرات الوعي الممتدة بينه وبين المُتلقي المُستنير القادر على استيعاب قيمة تلك الإشارات الفكرية وفك شفراتها السرية. الساحة الأدبية تعجّ بالكثير مِمَّن يكتب في الهامش والقليل ممَن يكتُب في المَتْن وهذا ما أظهر التفرُّد بين فئة الكُتَّاب والأدباء، فالكلمات كالقالب الخام؛ حين تتشكَّل بين يدي الكاتب المُحترِف تتحوَّل إلى تُحفة فنية نادرة؛ ساحرة المنظر وعميقة الفِكر، وحين تسقط بين يدي كاتب مجوَّف تتحوَّل إلى (خُردة) عديمة الجدوى، خاوية المحتوى. مِن الكُتَّاب من يتجه للعمق الفكري ويطرح أفكاره بتجرّد تام وموضوعية مُطلقة مما يُضفي إلى كتاباته طابعاً مميزاً وقوياً، ومنهم مَن يتفنّن بالتمايل بالفكرة ومراقصتها وإخراجها بشكل فني وجذاَّب، برأيي كلاهما مُبدِع في صُنع الفكرة وإن اختلفت طُرُق إخراجها. وكل ما عليك فعله ككاتب هو أن تكتب بحُب، حتى في أكثر الموضوعات عُمقاً وجدية ومنطقية اترك بين أسطرها مساحة لنبض قلبك واختلافك عن غيرك. واختم المقال بمقولة الشاعر البريطاني ويليام وردزورث «املأ الورقة بكافَّة أنفاس قلبك».