عامان مضيا على رحيل الأديب الشاعر عبدالله بن حمد الحقيل، وقد خلّف وراءه سيرة محتشدة بالعطاء، وثرّة بالمنجزات، وموثقة في ما خلّفه من أرث أدبي متنوّع، يبرز من بينها ديوانه الشعري الوحيد «شعاع في الأفق»، الذي احتوى على أكثر من (45) قصيدة موزعة في بياض (156) صفحة من القطع المتوسط.. يستقبل «الحقيل» قارئ الديوان بمقدمة كشف فيها مفهومه للشعر، وفلسفته في التعاطي مع هذا الفن الأدبي الراقي، وغياته التي يرجوها منه، بما يجعل المقدمة عتبة مهمة لا يمكن تجاوزها قبل الإبحار في عباب القصائد المتنوعة، فالشعر فهم تصوّر «الحقيل» هو «.. فن اللغة العربية الأول، وبه ترتفع الهمم وتعلو العزائم وتشمخ النفوس».. مقرًّا بأن الموهبة وحدها لا تكفي في هذا الفن وإنا «يحتاج إلى صقل مستمر للموهبة ومارسة قرضه وترويض دائم لملكة الشعر».. ومع المقدمة لم تمسك بتعريف جامع للشعر إلى أنها قدمت إضاءات مبرقات لماهية الشعر في تصور «الحقيل» تتراوح ما بين كونه: «أدب وفن وفكر جميل»، و»يجسد العاطفة والوجدان والإحساس والشعور».. وأنه روح المجتمع ولسانها المفوّه، وعلى هذا كانت مكانة الشاعر في المجتمع العربي قديمًا.. في ضوء هذه المفاهيم العامة التي بثّها الشاعر في مقدمة ديوانه تنداح دوائر الضوء من «شعاع في الأفق»، والذي يكاد قارئه يلحظ بوضوح وجلاء عناية «الحقيل» العظيمة باللغة العربية، والاحتفاء بها موضوعًا وذاتًا، منتصرًا في ديوانه للقصيدة العربية في تجليها الكلاسيكي الموروث، والمضبوط على إيقاع الخليل بن أحمد الفراهيدي وما استدرك عليه لاحقًا، فجاءت القصائد مسبوكة على هذه الإيقاعات الوزنية المنضبطة، وبلغة وسطية، لم تغرق في حوشي اللفظ وغريبه، ولم تنزل إلى وهدة الابتذال واصطناع لغة العوام، وإنما بقية مبرقة بأصالتها، ودنوّ قطافها، وانسجامها في جسد القصائد المبثوثة في الديوان.. أما من حيث الأغراض التي جالت في سوحها القصائد، فيمكن النظر إليها من خلال ثلاثة نوافذ، تتمثل في: * التأملات * المناسبات * والإخوانيات فعلى مستوى التأملات، نجد الشاعر يرسل خياله مستنطقًا الطبيعة من زاويته الجمالية البحتة؛ فها هو «في روضة الخفس» يقول: حي الربا والشذا والزهر والشجرا يذكي الهوى وينمي الروح والفكرا روض بديع وأشجار منمقة كأنها سندس يختال مزدهرا ثم قف معه في «الربيع»، وانظر «الشمس» بمنظاره حين يناجيها بقوله: لك الأثر الباقي بروحي ومهجتي فلا تحسبي أن الزمان طواك فيا شمس يا نور الوجود جميعه لأنت ضياء الكون حين نراك على هذا النسق الجمالي المستنكة لجوهر المعنى الغائب في الطبيعة، أو المستتر عن العيون، يمضي «الحقيل» ليستجليه، وأكثر ما يكون ذلك في استنطاقه للمدن وما اشتملته عليه من طبيعة وحمولات تاريخية، فانظر إليه يتغنى بمكةالمكرمة: مكة النور جئت هيمان حالم جئت أسعى لبيت رب دائم موطن الوحي والسلام وأمانا جئت أشدو بحبك المتلاطم أنت في الروح أنت في القلب تهدي وأنا بالهدى وبالحق قائم وهي ذات المحبّة التي يمحّضها ل»طيبة الطيبة»، ثم يطوف في ربوع نجد، ويحلّق بأجنحة الجمال واصفًا رحلاته إلى القيروان، وجنيف، وبرشلونة، والأندلس، وأمريكا، وغيرها من البقاع والمشاهد والأمكنة التي زارها، بما يجعل من لحظات تأمله الشعري فيها صورة من صور التوثيق الجمالي. ويرافق هذا النهج التأملي في قصائده حفاوة ظاهرة باللغة العربية، والكتاب، وشاعر العربية الكبير أبوالطيب المتني، وكرائم الأخلاق، ومحاسنها، غير ذلك مما تناوله الشاعر في هذا الصدد. وتبرز المناسبات بوصفها المساق الثاني الذي ركضت فيه قوافي «الحقيل الشعرية»، مستذكرين أن أول ظهور له في منابر الشعر كان في ندي دار التوحيد بالطائف عام 1371ه، ثم توالت مشاركته في المناسبات العامة داخل المملكة وخارجها، وقد وثّق لها في قصائد رائعة منها قصيدته في حفل جائزة الإبداع الشعري، وحفل مؤتمر المؤرخين العرب، وغيرهما من المناسبات الأخرى.. وتأتي خاتمة الديوان منفردة ب»الإخوانيات» التي تكشف عن جانب التفاعل الاجتماعي الذي احتفى به الشاعر وتغني له، وبه شعرًا انطوى على مودة خالصة، ومجاملة رقيقة للمتفاعلين معه، من الأصدقاء والمعارف.. غاية القول؛ إن هذا الديون حري بأن يجد الدراسة المستفيضة، والنظر العميق لما انطوى عليه من روح شعرية وثّابة، واعتناء فائق باللغة، ومحافظة مترسمة للشعر في ديباجته الأصيلة الكلاسيكية.. منوّهين بأن هذا الديوان للشاعر يبقى حاضرًا من جملة مؤلفاته النثرية الأخرى، منظورة في: المفيد في الإنشاء، وكلمات متناثرة، وفي التربية والثقافة، ورحلات وذكريات، وقصة إعداد المعلم في المملكة، وعلى مائدة الأدب، والمجمعة بين الحاضر والغابر.. هذا؛ فضلاً عن بعض الكتب المخطوطة التي تنتظر النشر، ومنها: الدعوة الإصلاحية في مواجهة التحديات، وعلاقة نجد بالشام في الفترة من 1157 إلى 1225ه، ودور دارة الملك عبدالعزيز في نشر وإحياء التراث العربي الإسلامي، ومعجم منطقة عسير، وآراء في اللغة والأدب، والعلاقة بين التراث الإسلامي ونمو المدينة العربية، وكيف يتم وضع الخطة لتنمية المصادر البشرية، ومجموعة من البحوث والمقالات والأحاديث في الصحف والمجلات والإذاعة.