بينما سويعات الأصيل.. في هذا اليوم تعتزم الرحيل.. دار حديث.. بيني وبين القرى.. حينما وقفتُ على قمة جبل في وادينا يسمى الخطام.. تأملتُ المكان.. بعد التقاط الأنفاس.. وناظرتُ القرى.. فوجدت أن القرية الأم بالنسبة لي تحاكيني.. «موطن الرأس ولكلٍ موطن».. وباقي شقيقاتها من القرى الحبيبة «تناظرني بعين» وجميعها على الرأس وفي داخل المقل.! بدأ الأنين مني.. تنَهْدُتُ وكثر الزفيرُ.. مرة للتعب إثر الصعود.. ومرات لكثرة الذكريات التي تدفقت على حين غرة.. وغطت على كل الوجود.. تكلّمتُ مع البيوت القديمة.. من بعيد.. كان الكلام.. عن الناس.. كل الناس الذين كانوا يجوبون القرى غدوة وعشياً.. يدفعهم حماس الشباب وترشدهم عقول الكبار في تناغم لا مثيل له حتى كان لتلك القرى شأناً عظيماً مكاناً وإنساناً.. واسماً جميلا نتداوله حتى يومنا هذا.. بنوا لنا السمعة العالية.. وحسن الجوار والاحترام والتسامح والإيثار.. (وهذا في كل مناطق مملكتنا الغالية).. تقاسم الآباء والأجداد.. والأحباب.. لقمة العيش يوم أن كان شظف العيش يأخذ منهم كل مأخذ. ردد الوادي صدى صوتي.. وعاد الجبل للقرى ينادي: أيتها القرى: هل للجفا من جواب شافٍ؟ ولا مجيب.. فالكل غائب.! والبيوت القديمة.. ضَعُفتْ.. وبان الشيب منها.. وإن تَرَكَتْ أثراً جميلاً به تُذكرُ.. فالشواهد باقية.. والحب مقيمٌ ما أقام (الخطام) عسيبُ.. ومع أن الوجوم والحزن بها حل.. ولم يعد للزائر لها محل.. فقد تحاملَتْ.. تلك البيوت.. وبالكاد سمعتُ صوتها.. يوم أن: كلّمَتْ.. والصوت مبحوح الحروف.. ردَّدَتْ أو كادت تُرددُ.. صوتك يناديني.. ثم ما لبثَ أن أطبق الصمت على ما تبقى من ذكريات السنينِ.. تمتمتُ بصوتي.. وفي مقطع قصير سجلته.. فقد غنيت في تلك اللحظة للجبل وللطير وللوادي وللقرى.. ثم محوتَه.. نعم محوته.!! إذ لم يكن ذلك يفي بالوعد مني.. فقد وجدت أن الصوت لوحده لا يكفي.. وأن الطير والقرية والجبل والوادي.. كل الوادي.. في طريق غير الطريق.. وأنا وهي كلٌ في وادٍ غير الوادي.. وأدركت حينها أن الصورة قد تُعبّر.. وقد تترك فرصة لمن يريد أن يُخفي خلف الصورة ما يُخفي.. واكتفيت بها.. ولمّا كان كل هذا.. قلت في نفسي على لسان بيوت القرى القديمة ما قاله المغني: لنا الله ياخالي من الشوق.. إلى أن قال: كيف..ٰ بعد المودة والمحبة صرتوا تنسوني.