أول ما أفكر به كلما زرت قريتي في الجنوب اللبناني هو الصعود الى سطح المنزل الذي ولدت فيه والتجول بالعين المجردة في تلك الهضاب والأودية السحيقة التي تزنِّر القرية من جهاتها الأربع. فمن هناك وعن سطح ذلك المنزل الريفي القديم الذي يترأس منازل القرية الواقعة بدورها على قمة احدى الهضاب المرتفعة تستطيع عيناي أن تقعا على رقعة هائلة من الأرض تمتد شمالاً الى مشارف عدلون وجنوباً الى حدود فلسطين وغرباً الى مدينة صور والبحر المتوسط وشرقاً الى تخوم جبل الشيخ. انها الرقعة نفسها التي استعيدها بالحنين والمخيلة كلما جلست الى طاولة الكتابة في ذلك المقهى البحري المطل على صخرة الروشة في بيروت والتي لا تني تتفجر مثل ينبوع من الأخيلة والتهويمات في منطقة ما من الرأس. كانني بصعودي الى سطح المنزل عبر ذلك الدرجة الحجري الذي لا يزال هو نفسه منذ عقود أحاول أن أقتفي أثر ذلك الصبي الصغير الذي ضيعته دروب الشمال وأتفقد مواطئ أقدامه على ذرى الطفولة الغاربة. كأن شيئاً لم يتغير في ذلك المنزل الذي شهد الاهتزازات الأولى لسرير الخشب الذي لفَّني بقماطه طوال سنوات. لا شجرة الرمان المحاذية للمدخل ولا شجرة الدفلى على يمين الدار ولا القبو القديم الذي يحتضن أهراءات الحبوب وخوابي الزيت وعفونة الجدران المحصنة ولا البيوت الحجرية المجاورة التي هجرها ساكنوها منذ زمن بعيد وتحولت الى أنقاض. حتى أزهار البابونج وأقمارها الصغيرة الصفراء لا تزال في مكانها على سطح القبو تحملق بذهول في عيني ذلك الزائر الغريب الذي يحاول عبثاً أن يذكِّرها بنفسه. كذلك هو الحال بالنسبة الى نباتات الخبازي وأوراقها المنبسطة كالأكف الصغيرة على جنبات السطح، ولدالية العنب المعرشة فوق أعمدة الحديد الصدئة والتي اعتدت أن أنام تحت عناقيدها القديمة صيفاً بعد صيف. كأن شيئاً لم يتغير في ذلك المنزل سوى الزائر الذي خطه المشيب والذي يعود مرة كل شهر لتفقد أطلال نفسه كما يفعل علماء الآثار في الخرائب المهدمة. الى الجنوب من القرية تترامى المناطق الأكثر عذرية وغموضاً في ذلك المحيط كله. فهناك تتكفل الجغرافيا الخالصة بإقامة ذلك الشرخ الأرضي الهائل الذي يرسم الحدود الطبيعية الفاصلة بين الجنوب المحرر وفلسطين الرازحة تحت الاحتلال. في الأحشاء العميقة لذلك الشرخ تنبجس مياه متقطعة وقصيرة المجرى على شكل جداول وسواقٍ وقصاصات أنهار تبدأ من "عين التينة" و"الدلافة" في أقاصي الجنوب وتنتهي شمالاً مع "العزّية"، التي سال على ضفافها دم "أيمن" الطفل، وصولاً الى البحر المتوسط. ولم يكن لتلك الأودية بالطبع ان تكون ما هي عليه لولا الانحدار السيفي الغريب للجبال التي تتصالب فوقها من كل جانب. صحيح ان تلك الجبال لا ترقى الى ارتفاعات شاهقة، كما هو الحال مع جبال الشمال اللبناني، ولكن وحشيتها الظاهرة وتناظرها الشاقولي الضيق وغاباتها البكر المكسوة بأشجار السنديان والشبرق والبطم، والتي حال الاحتلال الاسرائيلي المزمن دون قطعها من قبل الحطابين وصنّاع الفحم! جعلها تنافس بجدارة الجبال الأخرى التي تفوقها في الضخامة والارتفاع. في كنف ذلك المثلث الجغرافي البري الناجم عن تحالف الجبال والأودية والمياه تكوَّن ذلك المثلث الآخر الذي اتصلت به كتابتي الشعرية والنثرية، وأعني به: الطفولة والحب والموت. فمن هناك على وجه التحديد ينهض الينبوع الذي ما زال يمدني بأسباب التذكر والحنين والترجيع. المسالك الوعرية الضيقة والموزعة كالشرايين في أوصال الجرود، الغدران الصغيرة الوادعة التي طفا فوق صفحتها جسدي الطفل، العليق والزعرور والنباتات الشوكية التي تعمدت ثمارها بالطفح والخدوش ودم الأنامل الطري، وغير ذلك من عناصر التراب والريح والماء، شكلت الخزان الفعلي لكل ما كتبته، كما شكلت المشاهد والأصوات التي حملتني تردداتها على أكثر من جناح. وذلك الحليب الشحيح الذي ينز من "رضاعات الماضي"، على حد باشلار، هو الذي يمدد طفولتي المنقضية الى ما لا نهاية ويعصمها من الفطام. ثمة حلف لا تنفصم عراه يقوم بيني وبين العناصر التي تشكلت منها مواد ولادتي الخام. بيني وبين النسور التي تحلق في مرتفعات النسيان. بيني وبين السيول التي تنحدر من ذرى جبلي "العاصي" و"باصيل" دافعة عويلها الى قرارة الروح ومهاجع التنهدات. بيني وبين الأجراس التي تنشر ماعزها الجبلي الأسود على ملاءات الحنين البيض. ووسط تلك المساحات الشاسعة التي لا يملك النسيان ان يعريها من الهبوب تبرق دائماً تلك الطفولة المستردة، تلك الطفولة الهائجة التي تغمد قرونها الصغيرة في خاصرة الحاضر والمستقبل. وفي كنف ذلك المثلث الجغرافي عرفت حبي الأول. هناك حيث رحت أقتفي خطى حبيبتي الأولى ذات الفم الخاتمي والجسد المنمنم الى حيث تغسل الثياب، أو تفوِّح الغسيل بالنعناع البري وصابون الغار، أو تنتحي شبه عارية لتستحم خلف أشجار العليق والدفلى مموهة صدرها بالبراعم وسرتها بالأزهار وبطنها برغوة الصابون وشعرها بألياف الشجر وتدلياته. هناك درَّبت حواسي الخمس على التقاط الفتنة الانثوية القادمة إليّ مع مسيل الماء وجريانه حيث الخرير المغمس بقصاصات الرغبة البريئة وحيث المرأة تغني للحبيب الذي غيبته العواصم البعيدة. الطفولة هي باقة روائح يقول لويس شادورن. ومن قلب ذلك العالم الذي احتضن جسدي القديم بين ذراعيه تنبجس دائماً روائح الزمن المشبع بالأطياف والضحكات وعرق المراهقة المبكر. بوقوفي على قمة الجبل الذي يطلق عليه أهل القرية اسم "رأس الشقيف"، وللمرة الأولى بعد زوال الاحتلال الاسرائيلي، شعرت انني أطل على صورتي القديمة التي منعها العدو من الالتئام على امتداد ربع قرن كامل. لم يكن لي خلال تلك الفترة سوى ترميم المسرح الذي فقدته بالكتابة المحضة والخيال المجرد. تحولت الأودية التي خسرتها الى رحم واسع للطفولة المفقودة وللضحكات التي خلت. واذا كان العدو قادراً على سرقة تلك الأماكن واحتلالها الى حين فقد كان أعجز من أن يحتل حنيني اليها وقدرتي على الحفر في ترابها العابق بالرؤى والتهيؤات وأعقاب الأعمار. كل جبل من الجبال المقابلة ينطوي على أسراره وحكاياته وغموضه المهيمن، وكل واد كذلك. وفي تلك الهُوى السحيقة والمتخاصرة تُرفع الكلفة بين العقل والخرافة وبين الواقعة الحقيقية والخيال الجمعي الجامح. ففي جوف "شقيف الملح" ترقد الأميرة العاشقة التي اختطفها حبيبها الراعي قبل ألف عام وحملها الى مغارة سرية في قلب الجبل. وعند ضفة النهر يرقد الراعي القتيل بعد أن كمن له جنود الأمير وأردوه. والعجائز الذين يروون الحادثة بوصفها واقعة حقيقية يعيدون عن قصد أو غير قصد الأسطورة الموازية لأسطورة أدونيس وعشتروت وعشرات القصص العاطفية المماثلة. والوادي الذي قتل "محمد المقدم" على مدخل غوره الكثيف قبل نصف قرن بات يعرف بوادي القتيل وتحول الى جرح مفتوح لا يكف عن قرع أبواب القرية واخافة أطفالها في ليالي الشتاء القارس. ليس من بقعة في تلك الأرض التي أثخنتها الآلام الا وتنغلق على اسطورة أو قصة حب أو حادثة موت. وقد يكون لموقع القرية المرتفع وتضاريسها السيفية الغريبة أثر بالغ في إيقاظ نار التخيل من سباتها ورفدها بما يلزم من الوقود والاشتعال. فكل ريح تهب تجد لها فوق هضاب القرية وشعابها موئلاً أو موطئ قدم. وهي بهبوبها المزمن والمستمر لا تحرك الأشجار والزهور والسنابل فحسب، بل تحرك المشاعر الدفينة والذكريات والوساوس وكائنات الخيال الليلي ماحية الفواصل بين الشهوة والموت وبين الأحداث والأحلام وبين النوم واليقظة. وحين عدت الى هناك بعد ربع قرن لم يكن ثمة ريح أو نذير بريح. ومع ذلك فقد وجدتني نهباً لما يتلاطم في فضاء الداخل من هواجس وأسئلة وتصارع أصداء. فالشخص الذي يجلس الآن قبالة المشهد ليس أبداً ذلك الذي كانه قبل أربعة عقود. والمأساة تبعاً لذلك ليست في الأرض، بل في من يعيشون فوقها ويتوهمون تبعاً لذلك أنهم مثلها أبديون. أتذكر ذلك وأسأل نفسي أيهما أفعل في وجه الموت: الحبر أم الدم؟ من دون أن أنتظر بالطبع اجابة شافية.