هي صورة قديمة ظلّت معلّقة على جدار الذاكرة، أما لحظة التقاطها فما زالت عالقة بشريط الذكريات الذي تم تصويره عبر استديو الأحداث اليومية التي عشتها خلال مرحلة الطفولة البريئة.. هذه الصور وغيرها من آلاف الصور ارتسمت وتشكلت وامتزجت ألوانها بأطياف الحياة لم يشوهها الزمن بتقلباته أو يمحها الوقت بتغيراته رغم الاختلاف الذي نعيشه اليوم والقفزة الحضارية التي يشهدها العالم عبر القرية الواحدة، هذه الصورة تتبعها صور عدة ولكل منها عنوان يحمل مناسبة ما أو ذكرى خالدة والعيد في ذاكرة الطفولة يجعلنا نستعيد شريط الذكريات ونعود إلى حيث نشأنا وترعرعنا بعد أن قطع بنا قطار العمر مسافات زمنية عبر محطات الحياة منا من وصل إلى مرحلة القوة والشباب والعنفوان ومنا الآخر لم يمهله القدر وأخذه الله إليه أخذ عزيز مقتدر بينما البعض ما زال يلملم عفشه من محطة لأخرى {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}وهناك من سبقنا إلى المحطة الأخيرة من مراحل العمر والحياة، حيث كبر السن والشيخوخة والمرض وهذه سنة الله في خلقه {{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}. وفي أعالي قمم جبال الداير بني مالك بمنطقة جازان وقبل ربع قرن كان للفرح ألوان ممزوجة بسحر الطبيعة الخلابة وكان للاحتفال به أغنية على أنغام صوت المطر تردد المدرجات الخضراء صدى لحنها الشجي وهي تفتح السواقي لباقي المزارع لترتوي من نعم الله وخيراته وتتمايل سنابل القمح طرباً قبل أن ينادي المنادي بيوم الحصاد حين يأتي العيد وفي أحضان تلك القرية الحالمة وحين كنا صغاراً نلحظ فجأة من الوالدين رحم الله من مات منهم رحمة واسعة وأطال الله في عمر من بقي منهم ومتعه بالصحة والعافية والسعادة الدائمة أن جهدهم في ترتيب البيت وتجهيزه مضاعف نسألهم من باب التطفل أو قد يكون من حب الاستطلاع الدائم لدى الأطفال فيقولون غداً العيد سيأتي.. حينها نكاد من شدة الفرح نفقد شعورنا نتمنى لو يملك أحدنا جناحي طائر ليحلق عالياً ويبشر أطفال القرية الذين ربما لم يصلهم ذلك الخبر العاجل وحين يحين وقت النوم لا تسعنا الفرحة حين يطفأ السراج. وينام الناس أما نحن الصغار فلا نعرف للنوم طريقاً ونحن نرسم أشكال الفرح بالعيد وننتظر بشغف طلوع الفجر لأن موعدنا الصبح ولكن أليس الصبح بقريب؟! بلى لكننا نريد أن نلبس الجديد ونأكل الحلوى ونظفر بالعيدية.. وعلى طرف إحدى المزارع وفي سفح ذلك الجبل وعلى حافة الوادي يقع مصلى العيد الذي دائماً ما يداعب السيل جسره الحجري كلما جرى من هناك وفي بعض الأحيان تتحول المداعبة إلى معركة لا يلبث معها جسر مصلانا هذا إلا أن تنهار قواه فيخطف السيل بعضاً من حجارته.. وحين يكون الكبار في مصلاهم وبين يدي ربهم في خشوع وطمأنينة مكبرين ومهللين {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}نكون نحن الصغار قد أشغلتنا براءة الطفولة بالركض بين جنبات المصلى واختلطت أصواتنا وضحكاتنا بصوت الإمام وهو يلقي خطبته وكذا الطير وهي ترتل صلاتها وتسبيحها وكل منا في ذلك اليوم قد ارتدى الجديد وزهى بملابس العيد وفي صورة باهتة اللون كانت هناك صورة تلك الشياه التي تناثرت على قمة الجبل باحثة عن رزقها وأخذت ترسل على من في المصلى جيشاً من الحجارة ولا أنسى ذلك العيد الذي نزل فيه المطر والناس في المصلى وحين اشتد هطوله تسابق الناس إلى سياراتهم المتناثرة على جنبات الوادي وأكملوا عبادتهم في مسجد القرية فما أجملها من صورة وما أروعها من ذكريات كانت تلاشت هذه الصورة قليلاً وغيرها من صور الماضي الجميل ولم يبق منها إلا بعض الملامح كما بقي بعض الأطلال القديمة من قريتنا وبعض أبنائها كبار السن عافاهم الله وأحسن خاتمتهم اليوم منا من اكتفى برسالة معايدة عبر الجوال أو مكالمة ومنا الآخر لا هذه ولا تلك.. والله المستعان. العيد من غير أب عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى.. أم بأمر فيك تجديد أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيداً.. دونها بيد منذ أن عرفت فرحة العيد وعلى مدى ربع قرن مضى كان والدي رحمه الله يشاركنا متعة العيد وينثر بيننا معاني الحب والتسامح والسلام، كان زهرة الفرح الجميل وعنوان الابتسامة الصادقة، كان الأمان الذي نركن إليه والحضن الدافئ الذي نأمن فيه، وحين باعدت بيننا الأيام قبل بضع سنوات نظراً لظروف عملي كنت على مدى تلك السنين أحاول قبل كل مناسبة أن أسبقه بالاتصال والتهنئة سواء بشهر رمضان أو العيدين، فكان رحمه الله هو السبّاق بذلك.. رحمك الله يا أبي وسقى الله تلك الأيام التي كنا نقبّل فيها يدك الكريمة ورأسك الطيّب.. طبعاً عيد الفطر لهذا العام 1429ه هو العيد الأول الذي تعيشه عائلتنا من غير (أب) اليوم نحن تحت مظلة بيت أبو الطيّب المتنبي الذي يقول في إحدى قصائده: العيد أقبل بالسرور لبعضهم ولبعضهم قد أقبل أحزان اللهم اغفر لأبي وارحمه وتجاوز عنه واغسله بالماء والثلج والبرد ونقّه من الخطايا والذنوب كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خير من أهله وزوجاً خير من زوجه، وارزقنا الصبر على فراقه.. اللهم آمين. جابر بن حسين المالكي الحرس الوطني بالرياض كاتب بجريدة الجزيرة [email protected]