ربما تمرّ لفظة «الانكشارية»مسمى فرقة عسكرية مرور الكرام على متابعي الدراما التاريخية التي أنتجتها تركيا لتلميع سلاطين بني عثمان، والكثير لا يعرف أنها مثلت قوة جيشهم في غزواتهم الاستعمارية، وسبب تحولها من إمارة عثمانية إلى دولة خلافة؛ لكنها تتكون من الجنود العبيد اليونانيين والصرب والألبان والأوربيين وغيرهم من الأجانب الذين خضعت أراضيهم للدولة العثمانية. هذه الفرقة أنشأها «أورخان خان» ثاني سلاطين بني عثمان خلال القرن الرابع عشر الميلادي في 1363م، وذلك لكسر شوكة جنوده الترك من الفلاحين والفرسان من قبائل تركية بداية عهد السلطنة، إذ يشاركون في الحروب للحصول على الغنائم كمجاهدين؛ ومتى انتهت الحرب عادوا لمزارعهم بالغنائم؛ فيما ولاؤهم لقبائلهم أكثر من السلطان العثماني؛ لهذا خشي أورخان انتزاع السلطة؛ وفكر بتنظيم جيشه وتكوين فرقة المشاة «الانكشارية» التي تعني الجنود الجدد وزاد تنظيمها ابنه من بعده. لكن كيف تكونت «الانكشارية»؟ بدأت الفكرة بأسرى الحرب اليتامى والمشردين الصغار في المناطق المسيحية التي غزاها العثمانيون، لكن عددهم لا يفي، فتم اقتراح ضريبة «الغلمان» وفق قانون مُتوحش لا يمت بصلة إلى الإسلام! أفتى بها مفتي الدولة العثمانية الملقب ب»شيخ الإسلام» وجوازه قياسًا على أخذ الخمس في الغنائم، وهكذا فُرضت ضريبة بشريّة لا إنسانية لتكوين «الإنكشارية» لم يُسمع بها في أي خلافة إسلامية قبل «العثمانية»! تُسمى «ضريبة الغلمان» أو «الدوشيرمة»! حيث يذهب ممثلو السلطان العثماني إلى القرى والمدن المسيحية الخاضعة للعثمانيين، ويتم أخذ أفضل وأذكى طفل من كلّ أسرة مسيحية ليس وحيدها، ما بين عمر 8 14 كضريبة بشريّة بجانب الجزية التي يدفعونها للخزينة العثمانية، منافين ما أقره الإسلام بأن دفع الجزية من أهل الذمة لحمايتهم؛ الأمر الذي جعل بعض الأسر المسيحية تعتمق الإسلام كراهة ليحتفظوا بأطفالهم! فيما ذهب المؤرخون الترك إلى تلميع هذا النظام الضريبي بأن بعض الأسر المسيحية قدمت أطفالها لأنهم يصلون بذلك إلى مكانة عالية عند السلطان، لكن هذه الرواية لا يقبلها عقل ولا منطق خاصة حين نعرف أن هؤلاء الأطفال يتحولون إلى جنود عبيد مملوكين للدولة، يتم قطع علاقتهم نهائيًا بآبائهم وأمهاتهم وقراهم، ويمنعون من الزواج والتملك ويتم عزلهم اجتماعيًا سوى حياة الثكنات بعد ترحيلهم للأناضول! وضريبة الغلمان يتم تحصيلها ما بين خمس سنوات وثلاث، حيث يولد أطفال مسيحيون ويكبر آخرون للعمر المطلوب؛ فيؤخذون من الأسر وتقطع علاقتهم بهم، ويتم تنشئتهم كجنود عبيد وتربيتهم تربية عسكرية صارمة تعتمد التعذيب ما بين الجلد والتهديد بالإخصاء والإعدام كي يجيدوا فنون القتال؛ وقد تتفاجأ أن هؤلاء الأطفال المسيحيون اعتمد العثمانيون في تنشئتهم على الإسلام وفق مزيج من العقيدة الشيعية والطريقة الصوفية تسمى»البكشاتية» وهي ليست عقيدة العثمانية السنية، لأنها تحقق فيهم الولاء الروحي التام للسلطان العثماني؛ فالسلطان أبوهم الروحي والثكنات العسكرية مسكنهم وجنود الانكشارية أسرتهم والقتال حرفتهم الوحيدة! وحين يكبرون يتم فرزهم بحسب مهاراتهم فالمهارة الكتابية يؤخذون للعمل في إدارات الدولة وقلة وصلوا لمناصب وحظوة عند السلطان، وفئة يؤخذون خدمًا في قصور السلطان ومن تعرض للإخصاء يخصصون لخدمة حريم السلطان، أما الفئة الأكبر فتتكون منهم «الانكشارية» العسكرية وهؤلاء يتم منعهم من تعلم أي صنعة غير احتراف القتل، ولا يقدم لهم رواتب سوى السكن والطعام، ولهم زيهم ورتبهم الخاصة التي تميزهم عن بقية الجيش العثماني. أما العنف الذي تمت تغذيتهم به خلال تنشئتهم جعلهم أكثر بطشًا وتوحشًا في القرى التي يفتحونها، ولتحقيق طموحهم العسكري للوصول للحظوة والمكانة يكون ذلك بعدد الرؤوس التي يقطعونها خلال الحروب العثمانية؛ وقصتهم مع رأس طاهر باشا في مصر حين قطعوه معروفة للحصول على بقشيش! عمومًا الانكشارية هي من جعلت الجيش العثماني أقوى الجيوش التي تخشاها أوربا، ويذكر أن الجيش الإسباني هدد هولندا فاستغاث ملكها بالسلطان العثماني لإمداد جيشه، لكن السلطان العثماني أرسل له أربعين رداء من زي «الانكشارية» وطلب منه أن يرتديه جنوده الهولنديون، فما أن رأوا الإسبان ذلك ظنوا الانكشارية ضمن جيشه فانسحبوا. لكن يبدو العصا السحرية الانكشارية تحولت للعنة على السلاطين العثمانيين بعد ما يقارب 450 عامًا، زادت فيها شوكتهم وغرورهم وباتت قيادات فرقها يتدخلون في سياسة السلاطين العثمانيين فيما زاد وعي الجنود بحقوقهم بظل تضحياتهم في توسيع أرض العثمانيين، فزادت طلباتهم ك»الزواج» والذي سمح لهم به شرط «كبر السن» أو العجز بإعاقة من الحرب! حتى بات السلاطين يخشونهم! وحين تولى السلطان محمود الثاني بداية القرن التاسع عشر حاول إصلاح الانكشارية وتقليم أظافرها لكنهم رفضوا التطوير الجديد، فصبر عليهم حتى اتخذ قرارًا بالقضاء عليهم بعد نزولهم شوارع اسطنبول متمردين، واصدر أمرًا بتوجه فرق المدفعية العثمانية ومحاصرة الانكشارية وضربهم بها في مذبحة سميت «الواقعة الخيرية» مات فيها ستة آلاف جندي عام 1828م؛ وألغيت بعدها هذه الفرقة التي كانت سببًا في توسع الدولة العثمانية؛ فيما القضاء عليها سببًا في ضعفها وانتهائها. لهذا لا نستغرب حين رأينا «داعش» الارهابية التي تكونت على عين ومقربة من تركيا، تنتهج نهج الدولة العثمانية في تكوين معسكرات للأطفال السوريين وأبناء الإرهابيين تعلمهم صنعة القتل، فهؤلاء الأطفال بالأمس بات منهم اليوم المرتزقة ممن يدخلون القرى سارقين ومغتصبين للنساء بهمجية بعد أن اعتمد عليهم «أردوغان» ضمن عمليات جيشه التركي العسكرية في سوريا وشمال العراق وليبيا مؤخرًا، إذ كل ما فعله الرئيس التركي أنه أعاد إحياء فكرة أجداده العثمانيين بطريقة أخرى.