حضرت وتابعت باهتمام الندوة الثقافية المهمة التي نظمها النادي الأدبي الثقافي بجدة حول كتاب: «إن لم.. فمن..؟!» لسمو الأمير خالد الفيصل، وذلك مساء الاثنين 12 ربيع الآخر 1441ه بحضور وتشريف سموه، ومشاركة أكثر من ألف من المثقفين والمثقفات الذين غصت بهم قاعة حسن شربتلي الهائلة في مقر النادي، واضطر بعض الحاضرين للجلوس في الدور العلوي من القاعة نظراً لامتلاء القاعة الرئيسة عن بكرة أبيها، وكان ذلك أمراً مرتقباً، «فالمورد العذب كثير الزحام»، كما قالت العرب، ومن المعلوم في الساحة الثقافية اليوم أنه أينما يحل خالد الفيصل، يحل معه الفكر النيِّر والأدب الرفيع والمعرفة الواسعة المعمقة، وأقول ذلك عن تجربة، فأنا من رواد مجالسه الدائمين وما انقطعت عن أسبوعياته منذ توليه -حفظه الله- إمارة منطقة مكةالمكرمة، وشرفت كما شرف غيري بأن سُجلت كلماتنا ومشاركاتنا في سجلات تلك الأسبوعيات التي صدرت في مجلدات صقيلة فخيمة. كانت ندوة استثنائية بكل المقاييس أدارها باقتدار أخي الكريم وزميلي القديم معالي الأستاذ الدكتور عبدالله بن سالم المعطاني نائب رئيس مجلس الشورى، وشارك فيها خمسة متحدثين من أجيال متعاقبة (إن جاز التعبير) الأستاذ الدكتور حسن الهويمل، الدكتور عبدالله دحلان، الدكتورة عزيزة المانع، الدكتورة رانية العرضاوي والأستاذ حسين بافقيه، واستُهلَّت الندوة بكلمة بليغة موفقة لرئيس النادي الزميل العزيز الأستاذ الدكتور عبدالله عويقل السلمي بشَّر فيها بعزم النادي على ترجمة هذا الكتاب المهم إلى اللغات الحية وفق برنامج (قنطرة) الذي أطلقه النادي. وأعتقد جازماً أن نادي جدة وُفِّق مرتين في هذه المناسبة، أولاهما بعقد هذه الندوة الفائقة الأهمية حول كتاب فائق الأهمية، وثانيتهما في السعي لترجمة الكتاب إلى اللغات العالمية الحية التي تتصدرها في ظني: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، لأن هذا الكتاب (كما سأبينه في هذه المقالة) ليس عملاً أدبياً فحسب، كما ذهب إليه بعض المشاركين في الندوة وبعض من كتبوا عنه، بل هو دائرة معارف وافية ومختصرة عن مسيرة النماء في المملكة العربية السعودية، صيغت بأسلوب أدبي مشوِّق يمكن وصفه بالسهل الممتنع، وطُعّمت بالشعر العربي فصيحه وعاميّه، ما جعلها سهلة على الهضم، على عكس دوائر المعارف الأخرى العسيرة الهضم التي لا يرجع إليها القارئ إلا لتصيُّد معلومة بعينها، ولا يكلف نفسه عناء قراءتها كاملة لثقل مادتها العلمية وجفافها ووعورتها. أما دائرة المعارف: «إن لم.. فمن..!؟» فتنساب كجدول رقراق، وما إن تبدأ قراءة صفحاتها الأولى، حتى تجد نفسك مشدوداً إلى نهايتها، كما أكد عليه أحد المنتدين الدكتور عبدالله دحلان الذي بيَّن أنه قرأ الكتاب من الغلاف إلى الغلاف. وقراءة هذا العمل الفكري لا تستغرق أكثر من ساعة إلى ساعتين، فقد تعمَّد مؤلفه بحنكته المعروفة أن لا يزيد عدد سطور كل صفحة عن عشرين سطراً، وهي ليست سطوراً بل أنصاف سطور يشبه كل منها شطر بيت من الشعر، وكثيراً ما يكون لها قافية داخلية، وذلك في كتاب يتجاوز مائتي صفحة قليلاً، فما أسهل قراءة مائة صفحة قسمت هذا التقسيم البارع، وخُتم معظمها بأبيات عذبة شجية. أقول دون مبالغة: إن هذا الكتاب تفرَّد في الوقوف عند أحداث مفصلية في مسيرة الوحدة والنماء والازدهار منذ البدايات الأولى لمرحلة توحيد المملكة على يد صقر الجزيرة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمه الله، وكان لخالد الفيصل رؤيته الخاصة في ذلك التوحيد حين قال: «وتتجلى شخصية عبدالعزيز في توحيده للقلوب قبل توحيده للأرض والقبائل والشعوب». وفي رؤية غير مسبوقة تحدَّث خالد الفيصل عن التحوّلين المهمين في تأريخ المملكة: التحوُّل الأول كان على يد الملك المؤسس الذي حوَّل المجتمع القبلي الأمِّي إلى مجتمع مدني في دولة عصرية، والتحوُّل الثاني كان على يد الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، تمثل بما عُرف بنقاط الفيصل العشر. وقد وردت في الكتاب بالتفصيل، ووقف المؤلف عند كثير من إنجازات والده وأعمامه الملوك الذين عمل معهم في سرد مشوق لتجاربه اللافتة الثرية التي اغترف فيها من مَعين جَدِّه وأبيه وأعمامه فتىً وشاباً يافعاً، وصولاً إلى الكهولة كما أسماها مستعرضاً أيام غربته وأيام دراسته، وعمله في رعاية الشباب وإمارة عسير وإمارة مكةالمكرمة ووزارة التعليم، وكلها تجارب ثرية يجب أن تروى ليستفاد منها على مدى الدهر، ولتعرف الشعوب الأخرى كيف حققت المملكة نهضتها خلال عقود قليلة من عبدالعزيز إلى سلمان. حين فرغت من قراءة الكتاب عرفت الإجابات عن السؤال: فمن؟ إن لم تكن المملكة، فمن للإسلام والعروبة؟ إن لم يكن عبدالعزيز فمن للتوحيد؟ وذلك لأن خالد الفيصل قالها في آخر الكتاب: «كتاب ليس فيه أنا».