ثمة مقولات تظل في ذهني، ماثلة أمامي، وأخرى أجتهد في استعادتها، فهناك أكثر من 40 عامًا تفصل بين وقفتي هذه وتلك الأيام، لا يمكن للإنسان استرجاع كل ما ولَّى منه، ولقد انتقيتُ لكم مقولة قديمة سمعتُها من والدي -رحمه الله-: «ودّوه شهار»، حيث كانت تُقال لكل إنسان غير متزن فعلًا وقولا. كُنَّا نصيّف في الهدا ووداي محرم بالقرب من مدينة الطائف، وقد كانت عالمًا مختلفًا عما هو عليه اليوم؛ يرتاده معظم سكان الوطن والخليج. في إحدى زيارات الطائف مع والدي، مررنا بمنطقة حي شهار الشهير غرب الطائف، الذي يقع فيه مستشفى الصحة النفسية، ومعروف -على نطاق شعبي- أن المشفى يُسمَّى (شهار).. مشيتُ مع والدي نحو (مستشفى شهار)، لصرف علاج من صيدلية المستشفى، كان الوقت متأخرًا والجو باردًا، والشوارع معتمة سوداء، بينما ضوء القمر يتهاوى فوق مبنى المشفى، ليصير مسحوقًا فضيًا، ما إن دخلنا إلى المستشفى حتى داهمنا الظلام الدامس كخفاش، كان أنين مرضى المشفى يصدر من الغرف، وصدفة في إحدى ممرات المشفى التقينا بالدكتور محمد أحمد عرفان الطبيب النفسي المعالج بالمستشفى ووصف لنا اتجاه الصيدلية. كان ذهني قطعة سوداء مزروعة في جسد الظلام الحالك، وأصوات بعض المرضى المنومين من الغرف يتسلل إلى أذاننا، قررتُ أن أغتال شبح الخوف من المرضى المنومين الذين يمرون بممرات المستشفى، أخيرًا جمعت شجاعتي من شتات روحي، ومشيت بينهم وهم يُحدِّقون في الزوار، وما إن وصلت الباب، حتى صِحتُ بصوتٍ مضطرب وناديتُ على (أبي)، كررت النداء عدة مرات، وفي كل مرة أعلى صوتًا من سابقتها وبعصبية، قلت له فين السيارة؟، شعرت بفرحةٍ عظيمة وباب السيارة يُفتح. ومرَّت السنوات، وفي أحد ممرات الصرح الطبي بجدة، التقيتُ بالطبيب الدكتور محمد عرفان في مشفاه، ولا يزال إيمانه يزداد بأن المريض النفسي ليس مجنونًا، وبحلقتُ في قسمات وجهه، وتمتمتُ: ذلك المناضل الذي آمن أن المريض النفسي له علاج في المرض النفسي. وسألت نفسي: كيف آمن الدكتور عرفان بمرضى مستشفى شهار أنهم أسوياء، ويحتاجون علاجًا في أيام كان الطب النفسي غير متواجد على خريطة بلادي!. كيف جازف بالاستثمار في علاج المرض النفسي في صرح طبي؟.. أيقونة الطب النفسي الدكتور محمد أحمد عرفان، رواية تستحق أن تُكتَب.