بسرعة وبلا تردد، وبنيّة طيّبة، ينبغي أن تنخرط الأطراف السودانية في مهامها الجديدة، دون الاستغراق كثيراً، أو حتى قليلاً، في حسابات الربح والخسارة. الواقع الجديد يقول، أو ينبغي أن يقول: إن الرابح الأكبر في حالة الربح سيكون هو الشعب، وإن الخاسر الأكبر إذا وقعت الخسارة سيكون هو نفس الشعب. والحق أن الشعب الذي سار وثار، يستاهل الخير، ولا يستحق الدمار. الآن وفي ظل الغموض الشديد الذي يكتنف المنطقة ومناطق أخرى من العالم، لا وقت للندم أو التلاوم أو التردد أو النكوص أو المناورة أو المراهنة.. الآن بات على الجميع أن يدرك خطورة الانقسام، «وكل أدواته جاهزة»، وخطورة الفتنة «وكل أساليبها جاهزة»، وخطورة الحريق «وكل حطبه» جاهز. هذا من جهة، ومن جهة أخرى بل من كل الجهات، هناك مَن يتمناها.. يتمنَّى السودان ليبيا جديدة، بحيث تتسع رقعة التدمير في هذه المنطقة تحديداً لغرض في نفس يعقوب، أو في نفس مَن يتمنون لمصطلحات اللجوء والتهجير أن تسود. في ضوء ذلك، ينبغي على الفريق الذي يرأسه البرهان بجناحيه العسكري الذي يقوده حميدتي، والمدني الذي يقوده حمدوك، أن ينشغل بأدواره الحقيقية، المتمثلة في إعداد وتمهيد الطريق. لقد انتهت مرحلة التشكيك في شرعية المجلس العسكري، وفي شرعية تمثيل قوى إعلان الحرية والتغيير للشعب، ومن ثم لا مجال بل لا وقت لكي تُضيِّعه الأطراف من جديد. للسودان جيش وطني وحس عربي عالٍ، لا ينبغي إخماده أو إطفاء حماسه في الذود عن حدود الوطن، والسعي لنشر السلام، وطمأنة جميع الجيران. وللسودان كذلك عقل ووعي سياسي وتجارب مدنية كافية لإرساء دعائم قوية للعدل والمساواة والحوار والديمقراطية. والأهم من ذلك كله، أن للسودان شعباً حراً أبياً، يعرف الغث من السمين، ويُدرك الفرق بين المخلصين وبين المناورين. للسودان شعب أثبت للعالم كله حُبّه لجيشه، شريطة أن تكون مهمته الأولى والأخيرة حمايته.. حماية هذا الشعب الذي كان وما يزال وسيظل مصدر كل السلطات في الدولة. إنها الحماية الحقيقية المجرَّدة عن كل هوى، أو طمع أو حنين للقفز على الكرسي من جديد، وخلط الأوراق بما فيها أوراق الدستور الوليد من جديد. وللسودان شعب، يقوده الآن شباب واعٍ ومثابر وطامح للوصول بالوطن إلى الأعالي. بالأمس قال حمدوك وهو يتحدث عن معايير وآلية اختيار الوزراء الجدد: إن المشكلة ليست فيمن يحكم السودان، وإنما في كيف يحكم السودان؟.. والاجابة السريعة التي يعرفها حمدوك ويعرفها حميدتي أيضاً هي إعمال مبدأ سيادة القانون في كل صغيرة وكبيرة. ويتفرَّع عن ذلك، بالتأكيد إحساس الجميع بروح جديدة متشبعة بقِيَم السلام والوئام في كل مكان، وليس في الخرطوم وأم درمان. في دارفور وفي كسلا وفي كردفان جماهير غفيرة تنتظر الإحساس بمسؤولية الطرفين «العسكري والمدني» عن حمايتهم.. أمنياً واقتصادياً وغير ذلك من عناصر الحماية الحقيقية.. حماية الجيش والحكومة والدولة كلها لشعب يلفظ بطبيعته أي حماية خارجية. لقد دخل السودان بالفعل مرحلة انتقالية، نرجو أن تكون للديمقراطية والحرية والعدل والسلام في ربوع الوطن، وليس لإعادة التمركز في الأقاليم، أو المناورات والمماحكات التي تفضي إلى العدم! إنها شهور الاختبار الحقيقي لكل الأطراف التي ينبغي أن تدرك مبكراً أن الحكم سيكون للشعب، وليس للوسيط الإفريقي، أو للصديق الغربي.. وأن الحصانة الحقيقية بيد الشعب وفي حضن الشعب، وليس عند أي قوة خارجية، ولو كانت مجلس الأمن. ورغم أن هذه الشهور تبدو في نظر البعض طويلة، فإنها تظل بالمقاييس السياسية قصيرة جداً.. والناجح فيها مَن يُثبت حُبّه لبلاده عملياً وعلى أرض الواقع، ذلك أن العداد الذي سيظل بيد شعب السودان بدأ في الحساب، فضلاً عن التاريخ الذي لم يعد سهل التزوير. اعتبروا المرحلة الانتقالية تجربة عملية لبرامج انتخابية حقيقية، لا وهمية، تستهدف إرساء مشروع وطني لدولة قوية فتية، كي ينتخبكم الشعب، ولا يرجم قوى التغيير، أو يترحَّم على أيام «المؤتمر الوطني»، أو يوم من أيام البشير.