ترتبط المجاعة التي لا تزال تهدد اكثر من مليون نسمة في جنوب السودان ارتباطاً مباشراً بالحرب الأهلية التي تعصف منذ الاستقلال سنة 1956. ولم يقطع تلك الحرب سوى عقد من السلام غير المستقر من العام 1972 حتى 1983. فقد استؤنفت في 1983 بعدما الغت الحكومة من جانب واحد اتفاقية السلام. وعلى رغم ان تركيبة اطراف الحرب اخذت تغدو معقدة بشكل متزايد، الا ان الحرب تدور اساساً بين الشمال العربي المسلم والجنوب الذي تعمره القبائل الافريقية ويغلب المسيحيون على قيادته الحديثة. ويعيش السودان ازمة هوية وطنية حادة، اذ ان الشمال العربي المسلم يمارس التمييز ضد الاجناس غير العربية وغير المسلمة، لكنه يهدف الى احداث تماثل معها لتكون شعباً موحداً. وقد قاوم الجنوب على الدوام السياسات الشمالية الخاصة بالتعريب والأسلمة. وينادي الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي يدافع عن قضية الجنوب بالوحدة في سودان علماني يعاد النظر في هياكله، ولا يكون فيه الجنس او الدين او الثقافة اساساً لتمييز. وهو امر غير مقبول لدى حكومة الجبهة الاسلامية القومية. والارجح - في نهاية المطاف - ان تقبل الحكومة تقسيم البلاد، بدلاً من ان تتنازل عن بنودها العربية والاسلامية لحكم البلاد. وفي هذه الحرب الشاملة التي تتسم بعدم التسامح عرقياً ودينياً، اضحى الحرمان من الطعام سلاحاً للفتك الشامل. فقد مات ربع مليون نسمة في جنوب السودان خلال العام 1988 - 1989، ليس لأن الغذاء لم يكن موجوداً، ولكن لأن الوصول الى السكان المتضررين تمت عرقلته. وأسفرت الضغوط الديبلوماسية المكثفة - خصوصاً تلك التي بذلها الراحل جيمس غرانت المدير التنفيذي السابق لصندوق الأممالمتحدة لرعاية الطفولة يونيسيف - عن التوصل الى برنامج "شريان الحياة" الذي يمثل ترتيبات فريدة اتفق بموجبها الطرفان المتحاربان مع الاممالمتحدة على فتح "ممرات آمنة" يتسنى من خلالها للمجتمع الدولي ايصال المساعدات الانسانية الى الجائعين في منطقة الحرب. وتمثل المجاعة الحالية ذروة عملية ظلت تتكشف جوانبها على مدى سنوات. ان اسبابها متعددة، وليس الجفاف سوى الزناد الذي اطلق شرارتها. وقد انطوت الحرب نفسها على تعبئة ميليشيات القبائل العربية وتسليحها لتساعد في محاربة الجيش الشعبي لتحرير السودان والقبائل التي عرفت بمساندته وأبرزها الدينكا. وبما قدم لها من اغراءات وما رسم لها من خطط عكفت ميليشيا القبائل العربية على تدمير شامل، وحرق القرى تماماً، وتدمير المحاصيل، ونهب الأبقار، والقتل الجماعي، وأسر الاطفال والنساء لبيعهم او استغلالهم عبيداً. وأوجدت المليشيات القبلية، الى جانب ما يسمى "قوات الدفاع الشعبي" التابعة للجبهة الاسلامية القومية وهي تنظيم شبه عسكري يطغى عليه الحماس المهووس، اوضاعاً مفعمة بالرعب وانعدام امن متواصلاً ادى بشكل منتظم الى التشويش على الاقتصاد المحلي، وحرم المجتمعات المحلية من قاعدة مواردها، وجعل السكان المحليين معدمين تماماً. والهدف من ذلك معاقبة من يشتبه في تأييدهم للجيش الشعبي لتحرير السودان، وتدمير قاعدة تأييده، وارغام الجيش الشعبي على الاستسلام او تقديم تنازلات كبيرة. ومن الاهداف الاخرى تمديد حدود الشمال جنوباً لتشمل المناطق التي اكتشفت فيها احتياطات نفطية كبيرة وحيث للقبائل العربية التي ترعى الأبقار مطامح في مصادر الكلأ والماء. اما الدينكا - الضحية الرئيسية لاستخدام المجاعة سلاحاً - فهم تقليدياً اغنياء بأبقارهم. ولم يتوقعوا لأنفسهم - بما لديهم من أرض مناسبة الى درجة مثالية للفلاحة والرعي في آن معاً - ان يعرفوا الفقر. لكنهم فجأة وجدوا انفسهم معدمين تماماً، وليست لديهم الضرورات الأساسية الكفيلة بإبقائهم على قيد الحياة. وفيما اكدت الحركة الشعبية لتحرير السودان قدرة عسكرية مثيرة للاعجاب، الا انها اضعف من ان توفر الحماية لشعبها، وأفقر من ان تقدم اليهم مساعدة مادية. واضطرت الحكومة السودانية، تحت وطأة ضغوط رهيبة من جانب المجتمع الدولي، الى الاذعان والسماح بتسهيل الوصول الى الحشود الجائعة. وقبل طرفا الحرب وقفا للنار قُصد منه تسهيل ايصال الغذاء الى المحتاجين اليه. وتنطوي العملية على جسر جوي مكلف للغاية، ومن المفارقات المفعمة بالتناقض ان ذلك يدل في آن معاً على الفشل في بدء عمليات النقل في موعدها وفي التضامن الانساني ايضاً. مات كثيرون، ولا شك في ان كثيرين سيموتون قبل السيطرة على المجاعة، والأكثر اهمية من ذلك ان مزيداً من المآسي من المؤكد وقوعه في المستقبل القريب، ما لم تتم معالجة السبب الرئيسي لهذه الكارثة الناجمة عن صنع الانسان. ولذلك فان على المجتمع الدولي ان ينتهز هذه الفرصة لممارسة ضغوط على الطرفين للدخول في مفاوضات جادة للتوصل الى سلام عادل ودائم. وعلى رغم ان المصالحة لن تكون سهلة، فان معالم التسوية المحتملة حددت بشكل دقيق. اذ اشترط اعلان المبادئ، الصادر في 1994 عن منظمة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف ايغاد التي تضم الدول المجاورة للسودان التي بقيت تتوسط في النزاع منذ سنوات عدة، منح الجنوب حقه في تقرير مصيره، لكنه اوصى بأن تمنح الوحدة فرصة، واقترح ترتيبات من شأنها تسهيل بقاء وحدة البلاد، وتشمل تلك الترتيبات فصل الدين عن الدولة واللامركزية الاقليمية، والديموقراطية التعددية، واحترام الهيكل الجديد للسودان. وللجيش الشعبي لتحرير السودان الحق كله في الخوف من ان تستغل الدعوة الى الوحدة من قبل الحكومة التي يمكنها ان تقول لحلفاء الجيش الشعبي من الشماليين: "انظروا... الم نقل لكم ان لهؤلاء الجنوبيين بنوداً خفية تتعلق بالانفصال؟". وطبقا لتقديرات الجيش الشعبي لتحرير السودان، يتحول الانفصال خياراً حيوياً في حال واحدة: اذا اضحت الحركة تسيطر سيطرة تامة على الجنوب. وحتى اذا حصل ذلك فان السلطة الممسكة على زمام الامور في الجنوب ستكون بحاجة الى ان يضمن لها المجتمع الدولي الاعتراف بها. وإذا كان الانفصال مقبولاً من الناحية المبدئية، فيتعين عندئذ اعتماد حق تقرير المصير باعتباره خياراً حقيقياً وليس مجرد حيلة تكتيكية. ولذلك ينبغي ان يحصل وسطاء منظمة "ايغاد" وشركاؤهم الدوليون، خصوصاً الولاياتالمتحدة، على التزام قوي من الحكومة في هذا الشأن، وعليهم ان يطمئنوا قيادة الجيش الشعبي لتحرير السودان قبل ان يكون متوقعاً من الحركة ان تقبل علناً خيار تقرير المصير الذي يمكن ان يفضي الى الانفصال. وفي كل حال، ما سيكون مهما في الاستفتاء على تقرير المصير هي ارادة شعب الجنوب وليست التصريحات الحماسية للقيادة. النزاع السوداني يبدو جاهزاً للحل، وعلى الولاياتالمتحدة ان تقوم بدور رئيسي، بالتنسيق مع وسطاء "ايغاد" والمجتمع الدولي، لضمان تمديد وقف النار الى اجل غير مسمى حتى يمكن ضمان سلامة وأمن العمليات الانسانية ولاعطاء عملية السلام الزخم المنشود. وبما ان الطرفين وافقا اصلاً على اجراء استفتاء تحت اشراف دولي في الجنوب، فيتعين حضهما على قبول عملية دولية لحفظ السلام لمراقبة وقف النار، واحتواء العناصر الاجرامية المتورطة في التدمير والقتل والنهب والاستعباد، والمساعدة في تهيئة مناخ يساعد على ممارسة حق تقرير المصير بحرية. ومن ثم يمكن التفاوض على الترتيبات الادارية خلال الفترة الانتقالية، والخيارات التي يمكن التصويت عليها، بين الحكومة والجيش الشعبي لتحرير السودان. ويمكن استخدام العملية ليس فحسب من اجل انهاء الحرب بين الحكومة والجيش الشعبي، بل لخلق اجماع في الشمال. وبما ان مشكلة الجنوب ظلت عاملاً رئيسياً للخلاف بين الاحزاب الشمالية، فيتعين ان يسمح حلها للشمال بتطوير نظام للحكم يقوم اساساً على القيم الثقافية والدينية للشماليين، وهو هدف تقتسمه الاحزاب السياسية الكبرى بدرجات متفاوتة منذ الاستقلال. ويجب ان يكون المبدأ الهادي هو التعجيل بوضع حد للحرب. وليتحقق ذلك ينبغي الا ينظر الى الانفصال باعتباره لفظاً قذراً. ان الوحدة ليست غاية بحد ذاتها، وانما هي وسيلة لتحقيق غايات اكبر. وينبغي ان يكون صون كرامة الانسان هو المبدأ الذي لا يُعلى عليه. وبدلاً من ان يكون البحث عن الوحدة الوطنية وسيلة لذلك الهدف المهم، فهو وفّر فحسب تربة خصبة لحدوث فظائع وإبادات جماعية. وهي شرور ينبغي وضع حد لها، اذا لم يكن ثمة من يريد لشعار "الا تحصل ثانية مطلقا" - اثر ما حصل في رواندا - ان يكون مثار سخرية. * وزير الدولة السابق في وزارة الخارجية السودانية وسفير سابق.