مبكرًا ومبكرًا جدًا أدركت محنة اللاجئين المشردين والغرباء الهائمين! عرفت من خلالهم معنى شعور طفل بالجوع، ومرارة الإحساس بالضياع.. شيئًا فشيئًا وأنا أتنقل بين خيمة الحدادين الغرباء المنصوبة في قريتي من جهة، وخيمة العرب المرقعة في الجهة الثانية عرفت قيمة الاستمتاع بفرح الترحال والمغامرة، وروعة استجلاء المجهول، ونشوة المعرفة. ورغم أن أهل الخيمتين أو أولاهما على الأقل كانوا من أبناء مصر القادمين على الأرجح من الصعيد فقد كان قلبي ينفطر حسرة وألمًا على أولادهم وبناتهم كلما مررت بالخيمتين.. كنت منشغلا بعيشة أو معيشة هؤلاء تحت الخيام من الصباح للمساء، حيث أيام وليالي العوز والأرق والحرمان. والواقع أنني في فترة من عمري ظننت أن الحداد الكبير..... هو حارس نار الجحيم! بالمفهوم الفطري للأطفال والمقابل للجنة والنعيم! لقد كان لا يضحك ولا يبتسم ولا يتكلم.. وإذا نطق ذات يوم ينهر ابنيه بكلام مؤلم! ظللت مندهشًا في فترة طويلة بذاك الرجل الذي لم يعد يحتمل عذاب النار، ولا إشعاع النور، غير أنني في مساء مغرب حملقت في فتحة أو كوة تظهر في الخيمة فوجدت الرجل -حارس النار- بل حاميها وصانعها يصلي لله.. فصرخت مرددًا يا الله! انكسرت حدة الخوف بل الرعب من النار الدنيوية التي أرادها الله أن تكون في قريتنا ومن وجه حارسها، وبدأت أقترب من حرف الخيمة، خاصة إذا جاء مزارع قريب يطلب فأسًا، أو محراثًا.. أو جاءت جارة تطلب عود حديد للفرن أو مصبة! عالم آخر جميل انفتح أمامي.. هاهو حارس النار يصنع كل ما يفلح الأرض وينسق المشاتل.. بدءًا من منقرة الفلاح إلى مطرقة العامل! نسيت نظرة الابن «فكيه» المقهورة، ولم أعد أخاف من أذنه المبتورة، لكنني وحتى اليوم أتذكر كيف كان يعيش يومه في سأم، يكتفي في المساء باللعب مع النجوم، عله كان يدور معها في الفلك، حيث يمضي عمره كله كيفما اتفق! تذكرت بالأمس خيمة الحدادين وأنا أردد أبيات لعمنا فؤاد حداد يقول فيها: «ع الوتد لازم هنضرب.. حدادين يا أهل المدارك! نجلي أسياف المعارك.. قدموا نهر المهالك! للعروسة في الديار.. عندنا عتمه في عتمه.. عندنا نار قايدة نار»! توجهت بذاكرتي صوب خيمة العرب المنصوبة في الجهة الأخرى من الرملة.. إنهم أولئك البدو الرحل الذين أخرجت قوات الاحتلال الإسرائيلي آبائهم من فلسطين.. عاشوا في قرى محافظة الشرقية، وجاءوا بإبلهم ذات السنام العالي بحثًا عن الرزق.. كنا ننتظرهم في موسم الحصاد بكل اشتياق.. نستلقي على أكوام قش القمح وننظر للقمر، ونتابع كيف يكون الإيقاع الفريد لهؤلاء القادمين من بعيد. في الصباح يمضي «عطوة» بالجمل لنقل القمح، وينهمك العم صالح وأخويه أحمد ومحمد في دق «القصلة» بالعصا لا بترس وكأنهم يطحنون معها ذكريات أو مآسي الأمس! لقد كان عطوة دائمًا ساطع في ضمير الحياة.. ممعن في بهاه، يحكي لنا عن تلك الليالي التي نقرته فيها غربان الترحال وداسته السعالي! تصحو «صالحة» قبل صياح الديكة، لتمشي بحرية في جوانب «البركة» دون خوف أو قلق أو نظرات مرتبكة.. أما «سالمة» فقد تعلمت حمل مخرجات «القصلة» منذ بدء الحركة.. تبدو طول الوقت مكتئبة أو منهمكة.. وحدها «فاطمة» كانت مبتسمة رغم التعب حد الكدر.. فإذا ما شاكسها شاب تنفجر.. تخرج من عينيها أشعة بل أعيرة تنذر من يفكر أن يقترب بالبارود الذي سيهطل عليه من لسانها كالمطر! خيمتان كانتا كجزيرتين في قلب «البركة» تنشران قيم الصبر والرضا والكدح النبيل، وتملآن الحقول والدور بالإنتاج الوفير والابداع الجميل.. خيمتان كانت إحداهما تقريبًا بلا سقف، وكانتا بطبيعة الحال بلا جدران، لكنهما تنضحان بالهدوء وبالسلام وبالأمان.. ومغتربون، لا يغادرون الذاكرة، قد يفقدون ذواتهم، وقد يتركونها تذوب مؤقتًا لكن سيرتهم تظل في الذاكرة وفي الوجدان! يقول مارتن هيجر في «رسالة النزعة الإنسانية»: مع أن الإنسان يبني كل يوم آلاف المنازل، إلا أنه نسي حقيقة السكن، حيث التناغم والسكينة، وبهذا سلبت ذاته! الآن تذكرت ما درسناه عنه من أن الإنسان مدعو لكي يسكن بشاعرية على الأرض.. وليست هذه الشاعرية مجرد نوع أدبي، بل هي جوهر الإنسان.. نفتقدها هذه الأيام لأننا نعيش في هذا الزمن الضنين.