الأزهر يدين حرق الكيان الإرهابي لمستشفى كمال عدوان في قطاع غزة    "روشن" تضع حجر الأساس لمجتمع "المنار" في مكة المكرمة    خادم الحرمين يتلقى رسالة من الرئيس الروسي.. القيادة تعزي رئيس أذربيجان في ضحايا حادث الطائرة    المملكة تعزز الأمان النووي والإشعاعي    أسعار النفط ترتفع.. برنت فوق 74 دولاراً    الصين: اتجاه لخفض الرسوم الجمركية على مواد معاد تدويرها    الثقة الدولية في المملكة    محلات الرحلات البرية تلبي احتياجات عشاق الطبيعة    أحلام عام 2025    وزير الدفاع يلتقي قائد الجيش اللبناني    المسند: اخضرار الصحراء وجريان الأنهار ممكن    واتساب تختبر مزايا ذكاء اصطناعي جديدة    تغلب على المنتخب العراقي بثلاثية.. الأخضر يواجه نظيره العماني في نصف نهائي خليجي«26»    السعودية تحصد ثمار إصلاحاتها ورؤيتها الإستراتيجية    الجماهير السعودية تحتفل بتأهل الأخضر لنصف نهائي «خليجي 26»    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من بوتين    في المرحلة ال 19 من الدوري الإنجليزي.. ليفربول في اختبار وست هام.. وسيتي لإيقاف نزيف النقاط أمام ليستر    رئيسة الاتحاد السعودي للريشة مي الرشيد: أشكر وزير الرياضة وسنعمل بروح الفريق    «الهويات» تقلق سكان «زاهر مكة»    مبادرات تطوعية    ضبط أكثر من 23 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    «عزف بين التراث والمستقبل».. متحف طارق عبدالحكيم يحتفي بذكراه السنوية الأولى    "الرياض آرت" يُعلن مشاركة 30 فنانًا من 23 دولة في ملتقى طويق الدولي للنحت    من دفتر الأيام: مشوار في قصرغرناطة بأسبانيا    في إطار الجهود المبذولة لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030.. إطلاق فعالية «ليالي الفيلم الصيني»    يوم ثقافي لضيوف برنامج خادم الحرمين    تقدير دعم المملكة لقيم الاعتدال حول العالم    ضيوف "برنامج خادم الحرمين" يزورون مصنع الكسوة    طريقة عمل بسبوسة السينابون    أحد رفيدة وزحام العيادات.. مطالبات بمركز متخصص للأسنان    5 سمات شخصية تميز المتزوجين    طريقة عمل شيش طاووق مشوي بالفرن    5 آلاف خطوة يوميا تكافح الاكتئاب    الحرب العالمية الثالثة.. !    ماسك يؤكد دعمه حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف    المنتج الإسباني غوميز: «الجمل عبر العصور» جدير بالحفاوة في أي بقعة من الأرض    قائد "الأخضر" سالم الدوسري يحصل على جائزة رجل مباراة السعودية والعراق    شولتس: لا أنام إلا قليلاً رغم أني من محبي النوم لفترة طويلة    القيادة تعزي رئيسة الهند    المنتدى السعودي للإعلام يطلق معسكرًا لتطوير الإعلام السعودي بالذكاء الاصطناعي    «الفنيلة والسروال» والذوق العام    المطار.. عودة الكدادة !    من الشهرة إلى الثروة: هل نحتاج إلى رقابة مالية على المؤثرين؟    منصة X: الطريق إلى القمة أو للقاع    الصقور تجذب السياح في الصياهد    «سلمان للإغاثة» يوزع 1.494 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في إدلب السورية    ضبط 6 إثيوبيين في عسير لتهريبهم (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    اللغة العربية كنز خالد    «حمام الحرم» يستوقف المعتمرين    911 نموذج مثالي لتعزيز الأمن والإنسانية    إسرائيل تتمسك باستهداف المستشفيات    "الإسلامية" تؤهل الأئمة والخطباء والدعاة في تايلند    سعود بن جلوي يتوج الفائزين في «تحدي غرس القيم»    الأخضر السعودي يتغلّب على العراق بثلاثية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    أمير القصيم يرعى حفل جائزة الذكير لتكريم 203 طلاب متفوقين    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البرج القديم والحارس السهران والمدينة المحطمة - قسم أول
نشر في الحياة يوم 18 - 03 - 2008

لا يفهم الحارس كيف حدث ما حدث. يتحرك، يحاول أن يتحرك. ينتقل من زاوية الى زاوية وينظر ويحاول أن يستوعب الأشياء. لكنه كالمضروب على رأسه. يشعر أنه يسير في ضباب كثيف. والكارثة ? هذه هي الكارثة ? أن الضباب يخرج من أماكن عميقة وينتشر في رأسه. الكارثة أن الضباب في رأسه.
يكون ماشياً على الطريق وتأتي الظلمة من حيث لا يدري وتقتحم عينيه. كيف يحدث هذا؟ متى بدأ الخطأ؟ يحاول أن يفكر لكن اللغة لا تساعده. يتلعثم بالكلمات. لا يدري كيف يفكر. قبل زمن بعيد كُلِّف حماية المدينة. الأسوار لا تكفي للحماية. طالما ظنَّ كثر أن الأسوار العالية تكفي. هو أحسّ دائماً من زرع هذا الاحساس فيه؟ هل ولد حاملاً هذا الإحساس في الدم والجينة؟ - أحسّ دائماً أن الأسوار لا تكفي كي تحمي المدينة. قبل أن يبلغ سن النضج، قبل أن يُعطى مفاتيح المدينة ويُسمح له بالصعود الى قمم الأبراج ذات المرايا المعدن، وقعت حوادث غريبة في البلاد وتحركت عربات باتجاه المقابر. العربات الفارغة تقرقع بعجلاتها على الطرقات"عربات تلك الفترة من حياته كانت تسلك الدروب بلا ضجة. كأنها عربات في منام طويل وصامت، منام بلونين. يذكر البياض ينتشر خارج النافذة ويذكر أهله يضعون الطناجر على النار وراء ظهره ويذكر رائحة الحليب والخبز وهو ينظر عبر الزجاج ويرى في الخارج وراء صف الأشجار السوداء الواقفة كالأشباح وسط الفضاء الأبيض... ماذا يرى؟
هذه ذكريات بعيدة لا يدري كيف ظلّت محفوظة في أعماقه: يرى العربات السوداء تمرّ ثقيلة في الضباب الأبيض، ثقيلة وبلا صوت والسائل الأحمر يقطر من جنباتها. الأوراق الأشجار سوداء كالفحم تنقط منها حبّات الماء. الرطوبة فظيعة في الشتاء والأنفاس التي تخرج من فمه الصغير وأنفه الصغير تضيف الى الزجاج طبقة بخار جديدة. يمسح البخار بكفه، يمسح البخار بطرف كمّه بيجامة قديمة بلي قماشها، أخوته الأكبر منه لبسوا هذه البيجامة قبل أن يلبسها ويقترب بوجهه من الزجاج. ويقترب بعينيه. أهله طالما نبّهوا عليه ألا يصعد على الكنبة وألا ينظر من النافذة العالية. يغافلهم ويطلع على الكنبة وينظر من النافذة.
احدى الخالات بعد نوبة فزع شديدة سدّت النافذة بألواح الخشب. في فترة أخرى يذكر أكياس رمل رُصفت في الخارج لصق الحائط وسدّت النافذة. هناك أيضاً حقبة هي أيضاً محفوظة في أعماقه ولن يفهم يوماً كيف تستوعب الأعماق كل هذه الحقبات طبقة على طبقة على طبقة: هل الكائن البشري منجم؟ ماذا فيه؟ فحم أم حديد أم ذهب؟ جماد أم ماء؟ ممالك أم مستنقعات؟ حدائق أم أدغال؟ - هناك حقبة ارتفعت فيها حيطان الباطون وراء النوافذ وسدّتها كلها لدرء الخطر. لكن هذا زمن بعيد، بعيد جداً. عندما بلغ سنّ النضج، عندما سُلّم مفاتيح المدينة وأخبروه أنه منذ الآن الحارس، وأنه منذ الآن مكلف حماية المدينة، نظر الى الوجوه باسماً وسأل نفسه:"أحمي المدينة؟". بدت المدينة هادئة، يُخيم عليها سلامٌ لا نهائي. منذ زمن بعيد لا يحدث شيء في المدينة. الحوادث تراجعت الى الماضي البعيد. الذاكرة محّت من دفاترها الساعة السوداء. وفي المدينة التي لم تعرف يوماً إلا سلاماً وجد الحارس أن الحياة تمتد على الطريق أمامه وديعة وطيبة. نظر الى السيارات على الطرقات"نظر الى الطيور على الأشجار"نظر الى البشر داخلين خارجين من المجمعات التجارية"نظر الى الموظفين يخرجون ظهراً من مكاتب الى مطاعم ثم يرجعون بعد ساعة"نظر الى امرأة تدفع عربة فيها طفلة بيضاء الوجه عسلية العينين"نظر الى غيمة كالثلج تعبر عند اقاصي المدينة وتلقي ظلاً عابراً على السور الأسود العالي"نظر الى هذه المدينة التي تحوي عالمه وحياته وأحلامه فرأى الحياة ساكنة جارية جريان النهر وشكر ربّه على النعمة.
الآن يذكر انه طوال سنوات لا تُعد نسي الخشية القديمة المزروعة في عظامه. نسي لأن الذين حوله نسوا أيضاً؟ لكنه غير متأكد: هل نسي حقاً؟ الأعماق طبقات، ولعله دفع طبقة التذكر الى تحت، الى تحت، لعله طمر تلك الطبقة تحت طبقات الحياة العادية... ألا يفعل الإنسان هذا في كل ساعة؟ من دون ساعة جديدة تطمر الساعة القديمة كيف نبقى؟
لكن هل فارقته الخشية؟ كان يلمس المفاتيح الباردة المعلقة من حزامه، وهو يدور على السور ساعة العصر وينظر الى الغابات وراء الحائط. بينما يلمس المفاتيح تخرج البرودة من جوف الحديد وتتسرب عبر مسامه. الجلد رقيق، البشرة رقيقة. المرأة تدهن جسمها وهو يرى ضوء الشموع يلمع على الجلد الصقيل: تتمازج الذكريات في الرأس ولا يعود متأكداً أين عاش حياته وكيف عاش حياته ولماذا عاش حياته ومتى عاش حياته.
انه يتحرك في مناطق غامضة، بين الحقيقة والرغبة، بين ما كان وسيكون، بين الممكن وغير الممكن. هل يقع عن السور؟ أكثر من مرة أوشك على السقوط. يهاجمه الشرود وهو يجول وحده هكذا ساعات طويلة أعلى الأسوار. الوحدة تُخرج خفافيش من الظلمات. الناس يتحركون بين الأبنية، وهو يشرب الشاي على البرج وينظر. كفّ عن تلمس المفاتيح. مادة الحديد تتسرب الى دمه بينما يلمس هذه المفاتيح القديمة. لا يعرف أين صبّوا هذه المفاتيح ولا يعرف متى صبّوها.
بحث عن السرّ زمناً من حياته ? كم عمره الآن؟ يحاول أن يحصي السنوات ولا يقدر. هل عُطب دماغه؟ هل عُطبت قطعة واحدة في دماغه؟ لكن لماذا يقفز من مسألة بسيطة الى استنتاج مخيف كهذا؟ كثر ينسون أعمارهم اذا عاشوا حياة طويلة. وهو عاش حياة طويلة. ظلّ حارساً لأن غيره لم يأتِ ويأخذ مكانه. المفروض أن يأتي واحد كل خمسين سنة مرة. المفروض أن يتبدل الحارس عند تقدمه في السن."لكل جيل حارس"، يقول المثل القديم. لكن شيئاً ما حدث، لعل الناس أهملوا التراث، أهملوا التقليد، وهكذا بقي هو الحارس. لم يأتِ أحد في نهاية"دوريته". وظلّ وحده ساهراً على الأبراج، يبرم ساعة المساء حول المدينة ويقفل أبوابها.
ينظر الى المفاتيح ومرات يجهل ماذا تكون. يلمسها كي يتأكد انها مفاتيح، انها حقيقية، انها ليست من الخيال. الخيال غريب، يخاف منه، طالما أراد أن يتمسك بالواقع. يعرف كثراً فقدوا أرواحهم في الأدغال وراء المكتبة. يذهب الى هناك أحياناً لأن هذه مهمته: حراسة المدينة تنقسم الى حراستين. حراسة الأسوار وحراسة المراكز. المراكز سبعة"يقال كانت تسعة قبل قرون ثم فقدت المدينة مركزين. لا يقال كيف فقدت المدينة هذين المركزين غاصا في الأرض؟. ولا يُحدد موقع لهما. تخاف المدينة من الأوثان وتخشى أن يسعى أصحاب النيات الى استخدام الأطلال لغايات لا تخدم المدينة. هذا كلّه غير مهم. الحارس يحاول ألا يفكر في هذه الأشياء لأن اللغة لا تخدمه.
اكتشف هذا في حياته اليومية وهو يجادل أقرانه. اكتشف هذا في حياته اليومية وهو يخدم نساء البيت ? البيت الأول غرب المدينة ثم البيت الثاني شرق المدينة ثم هذا البيت الثالث في ظلّ السور والذي يرتاب منذ وقت انه البيت الأخير ولن يخرج منه إلا محمولاً.
اكتشف هذا في عمله. واكتشف هذا وهو يقعد في المكتبة. يُسمح له بالقعود حيث يشاء ويُعطى عدسة مكبرة وابريق ماء ودفتراً من الورق الأصفر المخطط بالأزرق يسجل فيه ملاحظاته. لا أحد يقرأ في المكتبة من دون دفتر. ولهذا لا تعتبر المكتبة المكان الأنسب للقراءة. الخاصة ? هؤلاء خطّ شعرهم البياض قبل أن يبلغوا سنّ النضج ? عندهم امتياز أخذ الكتب الى غرفهم البعيدة الموصدة. هناك يقرأ الواحد منهم كأنه لا يقرأ. يفتح الكتاب وهو نائم على جنبه في الفراش، وهو قاعد في كنبته المفضلة يشرب المتّة، قرعة تلو قرعة تلو قرعة. الحارس لم يعرف الشعور الذي ينتابهم يوماً. لا يُسمح له بإخراج الكتب من المكتبة.
يجول بين الرفوف المثقلة بالمجلدات ويشعر بالغبار يدخل في المجرى التنفسي. يخاف من هذا الغبار ويخاف من الجراثيم القديمة. أخبروه عن رجل طبيب، قالوا كان يقرأ كتاباً قديماً عن مرض بائد يُسمى السلّ، وبينما يقرأ ويلعق إصبعه ويقلّب الصفحات الملتصقة ويلعق إصبعه من جديد ويقرأ، بينما يضيع في العالم القديم النائم كما هو بين دفتي كتاب باقٍ من قرون ضائعة شعر بحرارته ترتفع. في البدء ظنّ انه الطقس يتبدل: ظنّ انه الشتاء ينتهي والربيع يبدأ. أو ظنّ انه الربيع ينتهي والصيف يهجم بالخماسين والحرارة. لم يعرف ماذا يحدث له، الطبيب القارئ. ثم انتبه. كان يلعق إصبعه ورأى اللون الأحمر على رأس الإصبع.
الحارس يخاف من هذه الحكايات ولا يصدقها. كيف بقيت جرثومة السلّ هاجعة بين صفحات الكتاب كل هذه القرون؟ هذا غير ممكن. هل هي استعارة؟ هل السلّ مرض نفساني؟ يخشى الحارس هذه الخواطر التي تباغته ويشعر أنها مربوطة بالطبقات الغارقة في أعماقه. لم ينبهه أحد عند تسليمه المفاتيح ? في ذلك اليوم الغائم البعيد ? الى الأخطار المحدقة بهذه المهمة. لو أُعطي اليوم الخيار هل كان يختار مهمة أخرى؟ وحده يعرف النكبات، وحده يعرف الخيبات، وحده يعرف الأحزان التي ألمّت به بسبب هذه الحياة التي اختارها. لكن هل اختار حياته؟
من يختار حياته؟ هل نقف أمام تقاطع طرق ونقول هذه الطريق التي نريدها، لن نسلك تلك الطريق الأخرى، نريد هذه الطريق وسنسلك هذه الطريق الى نهايتها وعلى هذه الطريق سنعيش الى النهاية حياتنا. هل؟ ماذا؟ يضيع الحارس في متاهة هذه المكتبة ولا يدري لماذا لا تخدمه اللغة ولماذا يعجز عن التعبير عن أفكاره. يشعر أحياناً بالصور تتدفق فيه ولا يدري كيف يخرجها منطوقة في كلمات من فمه. الكلمات تغدره دائماً. لا تقول ما يطلب قوله. قبل قرون عاش في المدينة منشدون. كانوا يقعدون أمام النار ويشربون الزهورات المغلية وينقرون على آلة: تخرج موسيقى من الأوتار ومع الموسيقى ينشدون أناشيد فيها حكايات قديمة. الكلمات كانت تأتي اليهم، لم تكن تغدرهم. هل فسد الزمن؟ ضربه الصدأ بتعاقب القرون؟ أم ان المشكلة فيه وليست في زمنه؟ ألا يعرف أنه الحارس وليس المنشد؟ ألا يعرف أنه الحارس وليس الكاتب؟ ألا يعرف أن الذين عاشوا الحياة كلّها بين الكتب يعجزون هم أيضاً عن الحكي، يتلعثمون بالكلمات، يتصارعون مع ملاك الكلمة فيقهرهم الملاك ويخبطهم بالأرض ويدوس على كليتهم ويتركهم كالخشب المضروب بالسوس ويمضي الى ضحية أخرى ولا يرجع اليهم أبداً.
الحارس لا تخدمه اللغة. الحارس يخدم المدينة. يقف على الأسوار وينظر الى الأشجار ويخاف أن تتحرك الأشجار وأن تهجم على المدينة. الغابة مخيفة. وعليه أن يبقى على حذر. المكتبة قائمة على هضبة والهضبة كثيرة الأشجار وتطلّ على البحر. السور شديد الارتفاع لكنَك من قمة الهضبة ترى أزرق البحر. أحياناً يعبر شراع أبيض. ويصل مسافر آتياً من مكان بعيد وينزل حاملاً حقائبه الخشب ذات السيور الجلد على رصيف المرفأ.
واحد من هؤلاء هو الذي بنى المكتبة الصغيرة الأخرى على سطح المكتبة الكبرى. عاش هناك وبين القواميس ترجم الكتب القديمة المقدسة من اللغات المندثرة الى لغة مدينتنا. كان يخدم اللغة أم كانت اللغة تخدمه؟ يُقال ان لغة مدينتنا تغيرت وهو يترجم تلك الكتب. هل هذا ممكن؟ انه يجلب كتباً من لغة أخرى من لغات أخرى بعيدة غير مفهومة ? الى لغة مدينتنا التي نعرفها. انه يجلب الى لغتنا كتباً من لغات اخرى. هذا كل ما يفعله، فهل تتغير لغتنا؟ كيف تتغير؟
اللغة تتغير مع الكتب الجديدة؟ هل هذا ممكن؟ أليست اللغة أوسع من المدينة ومن الناس في المدينة؟ جاء من وراء البحر وعاش هنا بيننا وبين قواميسه وتزوج امرأة من مدينتنا. يُقال انه مزج اللغة التي تعلمها في كتبنا باللغة التي تعلمها من زوجته. هناك هوّة عميقة بين اللغة المكتوبة في مدينتنا واللغة المنطوقة المحكية. يقال ان الرجل الآتي من وراء البحر ردم من دون أن ينتبه من دون أن يعرف ماذا كان يفعل، من دون أن يشعر بالخطر ? يقال انه ردم هذه الهوّة. هل هذا ممكن؟ هل هذا قابل للتحقق؟
الحارس يفكر في الرجل الذي ترجم الكتب القديمة، لأنه في تلك الكتب قرأ قبل سنوات بعيدة أشياء ظنّ انها لا تحدث. ظنّ ذلك، وكم مرة أخطأ في ما يظنّ! الا يقدر أن يقول ان حياته كلها سلسلة من هذه الأخطاء في الظنّ؟ يظنّ خطأ. كثيراً ما يظن خطأ. ثم تجيء الأيام وتلطمه على وجهه. لماذا يحدث له هذا؟
عندما سُلّم مفاتيح المدينة سأل لماذا تُعطى المفاتيح له. رأى الوجوه تبتسم ولم يعرف معنى الابتسامة. هذه الابتسامة معه أم ضده؟ هذه المفاتيح نعمة أم لعنة؟ هل يتخلصون من ثقل المفاتيح، من الصقيع في المفاتيح، من الصدأ القوي الرائحة طبقة صدأ على طبقة الحديد، اللون الزنجاري القاتم"هناك مواد كيماوية تضعها على هذه الطبقة فيذوب الصدأ ويتحول الى فقاقيع كأنه يغلي"تمسحه بقماشة وترى الحديد يظهر لامعاً كالمرآة جديداً: أين كان يختفي؟ ظهر من تحت الصدأ أم ظهر من العدم؟ هل تخرج من العدم مادة؟ والكتب؟ من أين تخرج الكتب؟. رآهم يبتسمون ولم يفهم. لكنه أخذ المفاتيح وقبل المهمة. كانت لحظة محيرة ولم يجد أمامه مفراً من استلام المهمة. في تلك الساعة بدأ الخطأ؟ في تلك الساعة عندما ظنّ أنه الآن يبدأ الحياة الحقيقية، الحياة المكتوبة له سلفاً في اللوح المحفوظ؟ في تلك الساعة بدأ الخطأ؟ لا، لا، لا. لا يريد أن يصدق هذا. يرفض أن يصدق أنه عاش الحياة كلّها على الطريق الخطأ. لا يتحمل هذا؟ أكثر من ذلك: يظنّ هذا كفراً. على الواحد أن يفعل ما على الواحد أن يفعله. ألم يتعلم هذا مذ كان صغيراً طري الأظافر؟
ينظر الحارس الى أصابعه والى الكتاب المفتوح على الطاولة. المكتبة تعتم الآن بها، الشمس تغرب وراء النوافذ. تطير العصافير على الأشجار ويسمع الى هنا أصواتها. شبان وفتيات يعبرون على الطريق تحت الأشجار ويسمع الى هنا ضحكاً. الضحك حلو"تدخل العصافير الى قلبه. ومع هذا أنفاسه ثقيلة. تضاء مصابيح الكهرباء دفعة واحدة ويتراجع الظلام الى مكانه فوق البحر وبين الأشجار والجذوع القديمة طبقة خشب ميتة تلف الخشب الحيّ، طبقة سوداء تتكسر ويرى تحتها طبقة بيضاء. على الطبقة السوداء تبرعم خضرة جديدة: أشجار قزمة تقبض عليها بين أصابعك"أصغر من الكف هي وبعد قرون تتحول أشجاراً ومن الشجرة الواحدة تبني بيتاً. وراء المحيط، هكذا أخبروه، أشجار عملاقة تكفي واحدة منها لبناء قرية كاملة.
أنفاسه ثقيلة. يخاف هذا الثقل في الأنفاس"هذا الألم في صدره. صديقه كان يأخذ حبّة دواء من أجل القرحة في المعدة. كان يأخذ حبّة دواء من أجل ضيق التنفس. الطبيب قال هذه مشكلة في القصبة الهوائية. هكذا ظنّ الطبيب. ذات ليلة وقع وهو يحمل كوب الماء. تجمّد جنبه ثم انتفض ويده ارتفعت وقبضت على ثديه. حملوه الى المستشفى. صوّروا الرئتين ورأوا الماء يملأ الرئتين. جلبوا الأنابيب والآلات وأخرجوا من الرئة اليسرى ثلاثة ليترات ماء. فتحوا ساق الصديق وأخرجوا منها شرايين وفتحوا صدره وفتحوا قلبه وأخرجوا من القلب الشرايين المسدودة وزرعوا مكانها شرايين الساق السليمة. جلبوا الخيطان والإبر الحامية المطهرة وخاطوا الساق وخاطوا الصدر وخاطوا القلب وخاطوا الشرايين. هذا مخيف، سمع ولم يصدق، مع انه طالما سمع مثل هذه الحكايات من قبل. في حياته الطويلة القديمة كم مرة سمع مثل هذه الحكايات؟ خالاته الخمس ملأن رأسه بهذه القصص العجيبة. تذكر خالاته بينما يسمع كلمات صديقه. الهواء البارد يدخل من الباب والرجل الخارج من العملية نحيلاً أصفر الوجه يتكلم. شهران مرّا والآن تحسن قليلاً. كان يذهب الى العمل حاملاً على قدميه 79 كيلوغراماً والآن يحمل 67. فقد 12 كيلوغراماً بين دعستين على الطريق والآن يستدير وينظر الى الهوّة العميقة السوداء ولا يعرف ماذا سقط في الهوّة وماذا فقد من نفسه وماذا كسب. هل يفقد الواحد فقط؟ ألا يكسب أيضاً؟ واذا كان يفقد ويفقد ويفقد، وطوال الوقت لا يكسب أبداً، فلماذا حياته؟ الربّ لم يعطنا هذه الحياة كي نخسر فقط، هذا غير ممكن، هكذا يفكر الحارس وهو ينظر الى أصابعه على الطاولة.
لكن أنفاسه ثقيلة والعتمة تتكاثف فوق البحر ومرات تقتحم عينيه وهو واقف صباحاً على البرج العالي يتأمل أسراب البجع تظهر فوق الغابة. المفروض أن الصباح ساعة الصعود المعنوي"المفروض أن الواحد يولد من جديد ويدخل حياته الجديدة في كل صباح. لكن ها هي الظلمة تغدر به مرة أخرى. هذا الهبوط الفظيع. هذا الخوف من المجهول. لماذا يحدث هذا؟
هل هذه ضريبة"المهمة"؟ ضريبة الحياة التي هي حياته؟ ولماذا سلموه هذه المهمة؟ لم يعرف لماذا ابتسموا. كانوا معه أم ضده؟ قالوا عليك حماية المدينة من الأعداء. أعطوه المفاتيح وتركوه مع الأسوار والأبراج والدوريات التي لا تنتهي في شوارع المدينة وحاراتها. يقعد ويسمع كلام العجائز. مرات يسجل الكلام في الدفاتر ومرات يسجل الكلام في الذاكرة. مع أن الذاكرة تخدع وهو يعرف أنها تخدع."نسَّاء ابن آدم"، يقول المثل القديم. تعبر شهور قليلة وها نحن نسينا كل ما جرى، كل ما صنعنا، وكل ما لم نصنع.
نسي الحارس أنه كان يفكر في الرجل الآتي من وراء البحر ثم تذكر. في الكتب القديمة التي ترجمها الرجل الذي يحبّ الأشجار والنجوم وأطعمة مدينتنا وحلوياتها أحد أصحابه اكتشف كوكباً وسمّى الكوكب"بقلاوة"، في الكتب القديمة التي ترجمها الرجل الذي بنى جنب المكتبة مرصداً فلكياً، في الكتب القديمة التي... ماذا؟
الحارس يخاف من هذه الجمل الطويلة. يحب الجمل القصيرة. لماذا تطول معه الجملة هكذا وهو يفكر ويحاول تسجيل أفكاره في الدفتر؟ لماذا تطول معه هذه الجمل هكذا؟ ضعف في التركيز؟ السبب ما يحدث للمدينة؟ في الكتب القديمة حكايات عن مدن يغضب عليها الربّ فيرسم عليها الدوائر ثم يمطرها كبريتاً وناراً. في الكتب القديمة حكاية البرج الذي ارتفع حتى بلغ الغيوم ثم خسف. أي سخط لا نهائي ضرب البرج على أساساته فبعثره وبعثر الناس على 72 طريقاً؟
المكتبة غرف وكلّما دخلت من غرفة الى غرفة غادرت عالماً الى عالم جديد.
كتب كل قرن كل مئة سنة مجموعة في غرفة واحدة. الغرفة واسعة، أوسع من قصر، لكنها غرفة. كلها رفوف وكتب ومصابيح. ينتقل من قرن الى قرن ويرى كيف تكرر الكتب نفسها وكيف تتكرر الحكايات وفي كل مرة تصير جديدة كأن أحداً لم يكتبها قبل ذلك. هذا سحر؟ ما هذا؟ في غرفة من الغرف يرى حكاية البرج ذاتها تظهر في كتاب عن سور عظيم يلف مملكة بعيدة. في هذه الغرفة أيضاً يقرأ عن المكتبة الكامنة في جوف البرج: المكتبة السرّية التي ينتحر حراسها. لماذا ينتحر المكتبيون الحراس؟ لماذا يرمون أجسامهم عن السلالم العالية ويسقطون في البئر العميقة التي تلفّها رفوف الكتب مثل الإسوارة؟ إسوارة فوق إسوارة، والبئر تنحدر، البئر تقع، البئر حفرة، والسقوط بلا نهاية. الظلمة كثيفة، الكتب نائمة، ومن الأعالي يقع المكتبي العجوز، وعندما يخبط القعر لا نسمع تكسر عظامه. هل تبدّد في الهواء وتلاشت مادة جسمه قبل أن يصل الى النهاية؟ هذا ممكن؟ هل يمكن أن يتبخر الواحد مثل كتلة ماء وهو يسير على الطريق تحت شمس آذار مارس؟ هل يحدث هذا في مدينتنا ونحن لا نعرف؟ يختفي كاملاً! لا نراه بعدئذٍ أبداً؟ معقول!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.