في البداية، لا بُدّ من الاعتذار لروح أبي فراس الحمداني، ذلك الشاعر والقائد العسكري العربي في الدولة الحمدانية التي خَلَتْ منذ مئات السنين، وكانت عاصمتها مدينة حلب السورية، إذ تَصَرَّفْتُ في بيت شِعْرِهِ الشهير الذي أنشده وهو قاعدٌ حزينٌ بجانب نافذة سِجْنِهِ، بعد أن أسره الروم في إحدى معارك الكرّ والفرّ بينهم وبين العرب، فَبَدَلَاً من قوله: أقولُ وقد ناحت بِقُرْبِي حمامةٌ.. أيا جارتا هل تشعرين بِحَالِي؟. سأقول: أقولُ وقد أكَلَت بِقُرْبِي حمامةٌ.. إلخ إلخ!. ولا أقصد بالطبع حمامةً واحدة، بل جنس الحمام بصفة عامّة، وعدده في مدننا قد ازداد بشكلٍ لافتٍ للنظر، بسبب ما يُلقِي إليه الناسُ من حَبٍّ وأرزٍّ وخُبْزٍ وفضلات طعام في كثيرٍ من شوارعنا وأراضينا الفضاء وبجوار محطّات البنزين بِنيّة نيْل الأجر والثواب، وأرجو الله في عُلاه أن يأجرهم ويُثيبهم على ذلك، فإطعام الطيور من جوع وإروائهم من عطش هو من الأعمال الصالحة، وهو من الصدقات المقبولة بحول الله، لكنّ وضع ذلك لدينا أصبح عشوائياً، ولا يحكمه أيّ نظام ذوق عام كما يحصل في الميادين العامّة في الخارج، والأماكن العامّة التي يتواجد فيها الحمام عندنا أصبحت مُتّسخة بشكلٍ مُقرِف، ولا أحد يُنظّفها، حتّى أنّ المرء يستنكف أن يمشي عليها بحذائه، فما بالكم أن يقف فيها ويلتقط له صوراً تذكارية مع أحبّته، وبعض الأماكن تغيّرت معالمها وصارت مثل أرضية حاويات النفايات، وفي هذا تلويث حادّ للبيئة، وتعريض الناس للأمراض والمُضايقات المختلفة، فضلاً عن التكاثر غير الطبيعي للحمام، وما لذلك من تأثير سلبي على التوازن في الحياة الفطرية، وغزو الحشرات والقوارض لأماكن الإطعام طمعاً في نيْل نصيبها ممّا يتكرّم به الناس، والبلديات تتفرّج، وكأنّ الأمر لا يعنيها، وكأنّه يجري في كوكب آخر يبعد عنّا مسافة سنوات فضائية!. أنا أقترح على البلديات أن تُحدِّد هي لا الناس، أماكن إطعام الحمام، وحبّذا لو اقتصرت على الميادين العامّة، وأن تكون تحت إشرافها، وأن تُوجّه شركات النظافة بتنظيفها أولاً بأول، فكثيرٌ من عُمّال هذه الأخيرة أصبحوا يتسوّلون من الباطن أكثر ممّا يعملون، بسبب ضآلة رواتبهم وغياب الحسيب والرقيب!. وعودةً إلى أبي فراس الحمداني الذي يُقال أنّ سيف الدولة الحمداني قد افتداه بالمال، وأطلق سراحه من السجن، ويُقال أيضاً أنّه هرب من السجن بالحيلة والقوة، والأكيد أنّه ودّع حمامة نافذة سجنه بسلام، فمتى نُودّع نحن ظاهرة عشوائية إطعامنا وإروائنا للحمام؟ أيضاً بسلام؟ ولكم منّي تحية وسلام.