ثمة إضافةٌ تُقدمها مقالات الرأي في الصحف اليومية، بعضُها على الأقل.. لكنها لا تسمح بالتحليل المطول، والضروري، لظواهر هامة في حياة المجتمعات، وإن كان هذا يحصل لأسباب معروفة، ومشروعة. تنطبق القاعدة المذكورة على ما جرى مساء الثلاثاء الفائت، عشية إعلان نتائج الانتخابات النصفية في أمريكا.. والحقيقة أن كل ما في الانتخابات، بملابساتها وطبيعتها ونتائجها، ودورها في مجمل المنظومة السياسية الأمريكية، يستحق كثيرًا من البحث المُطوّل.. لن تفوت تلك المهمةُ المجتمع الأمريكي الذي ستظهر فيه كتب ودراسات، فضلاً عن تحاليل مطولة، تتناول كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فيها بمجهر النقد والتحليل، فهذا النوع من الحَراك البحثي والثقافي جزءٌ لا يتجزأ من ميكانيزمات المجتمع، ليس فقط لضمان الاستقرار، بل وبحثاً عن التطوير نحو الأفضل، من خلال النقد والمراجعات، وهذه الانتخابات تحديداً تُعتبر من أهم الانتخابات في التاريخ الأمريكي المعاصر، لأن نتائجها أفرزت واقعاً سياسياً سيجعل العامين القادمين من إدارة ترامب في غاية الخصوصية، والأرجح أن تحمل معها أحداثاً مصيرية، ربما ليس فقط لأمريكا ذاتها، وإنما للعالم أجمع. من هنا، يركز هذا المقال على ظاهرةٍ واحدة على الأقل حدثت في تلك الليلة.. والفرصةُ أن فيها الكثير مما يتعلق بأمرين يهمان القارئ العربي: أمريكا والإسلام. ففي تلك الليلة التاريخية فازت إلهان عمر، المرشحة عن ولاية مينيسوتا، بمنصب نائب في الكونغرس الأمريكي. وُلدت إلهان في الصومال عام 1981م، لكنها بسبب الظروف المعروفة في ذلك البلد وجدَت نفسها لاجئةً في أمريكا بعد سنوات.. وبمزيجٍ من الجهد والعلم والمثابرة والكاريزما، أصبحت عضواً، عن الحزب الديمقراطي، في أقوى هيئةٍ تشريعية في العالم قبل أن تبلغ العقد الرابع من عمرها. ليس هذا فقط، بل إن نسبة فوزها على منافستها الجمهورية البيضاء كانت كاسحةً جداً بالمقاييس الأمريكية، والعالمية، ففي حين يبلغ معدل الفارق بين المرشحين في انتخابات أمريكا بين 5-10٪، حصلت المرشحة المسلمة الصومالية الأصل، التي ترتدي غطاء الرأس، على 78٪ من أصوات الناخبين مقابل 22٪ فقط لمنافستها، أي بفارق 56٪ من الأصوات! المفارقة الأخرى أن هذا الفوز حصل في ولاية مينيسوتا الواقعة على حدود كندا في الغرب الأوسط الأمريكي، حيث يغلب السكان البيض بشكلٍ كبير، مقارنةً بالمدن الكبرى التي تتواجد فيها الأقليات، إذ تبلغ نسبة البيض أكثر من 85٪ من عدد سكانها الذي يتجاوز 5 ونصف مليون نسمة، نسبة المسيحيين منهم أكثر من 70٪، وهذا ما يُعطي انتخاب النائبة الجديدة معنىً إضافياً في كونه رداً من ولايةٍ بيضاء مسيحية على كل دعوات العنصرية والتنديد بالأقليات في أمريكا. ما يستحق الدراسة الآن، ولاحقاً، يتمثل في شخصية إلهان التي رأى فيها الأمريكان جمعاً يُحبّونه بين هويتيها، الأمريكية من جانب، والصومالية المسلمة من جانب آخر.. فالمرأة التي ترتدي غطاء الرأس التزاماً شخصياً منها بما تراه تعاليم دينها، كانت منغمسةً في هموم مواطنيها الأمريكان المحلية من الرعاية الصحية للاقتصاد ومن البطالة إلى موضوع الهجرة.. والحقيقة أن سياسات الرئيس ترامب المتعلقة بهذا الموضوع الأخير كانت، من حيث لم يحتسب، سيفاً ذا حدين، فهي من ناحية حفَّزَت قاعدته الانتخابية الأساسية، لكنها، دفعت أبناء جميع الأقليات في أمريكا، وهم بعشرات الملايين إن لم يكن أكثر، إلى الوصول إلى درجات تاريخية غير مسبوقة من جهة الترشيح لمناصب سياسية في مختلف أنحاء أمريكا، أو التصويت في الانتخابات، وصولاً إلى الفوز، أيضاً بأعداد غير مسبوقة. بل إن وصول إلهان نفسها، ومعها المسلمة الأخرى رشيدة طليب، عن ولاية ميتشيغان، إلى الكونغرس الأمريكي، يُعتبر في حد ذاته جزءاً من ردّ غالبية المجتمع الأمريكي على سياسات وتصريحات و«تغريدات» ترامب التي كانت تُغذي التعصّب، وتصب النار على الخلافات العرقية، وتُذكي المخاوف من الأقليات، وتَصِمُ أفرادها، وخاصة اللاجئين منهم، بمختلف أنواع التهم المُهينة، ألم تبدأ رئاسته بمرسوم يمنع دخول مواطنين من ست دول إلى أمريكا، من بينها الصومال؟! ربما كان هذا السبب في تصريحٍ لإلهان بعد انتصارها قالت فيه: «الأمريكان لا يقبلون اللاجئين فقط، بل يرسلونهم إلى الكونغرس لتمثيلهم»!.